للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تعدّونني كالعنبر الندّ إنّما ... تطيب لكم أنفاسه حين يحرق

وهما وإن تواردا على هذا المعنى، فإنما أخذاه من قول حبيب: [الرجز]

لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود

***

ونذكر هنا جملة من الشعر الرائق المستظرف الفائق، تنسحب على أوصاف الغلام المذكور، وتتعلق بشعر الحريريّ من جهة التجنيس، أو من جهة الانقياد للمحبوب وإن جفا وصدّ.

ونبدأ بذكر حكاية أبي إسحاق الحصري لتعلقها بما انبنت عليه المقامة من توارد الخواطر.

وكان أبو إسحاق يختلف إلى بعض مشيخة القيروان، وكان الشيخ كلفا بالمعذّرين وهو القائل: [الكامل]

ومعذّرين كأنّ نبت خدودهم ... أقلام مسك تستمدّ خلوقا

قرنوا البنفسج بالشقيق ونظّموا ... تحت الزبرجد لؤلؤا وعقيقا

فهم الذين إذا الخلّي رآهم ... وجد الهوى بهم إليه طريقا

وكان يختلف إليه غلام من أعيان أشراف القيروان، وكان به كلفا، فبينما هو عنده والحصري قد أخذ في الحديث إذ أقبل الغلام وهو يقول: [الكامل]

في صورة كملت فخلت بأنّها ... بدر السماء لستة وثمان

يعشى العيون ضياؤها فكأنّها ... شمس الضحى تعشى بها العينان

فقال الشيخ: يا حصري، ما تقول فيمن هام بهذا القدّ، وصبا لهذا الخدّ؟ فقال الحصري: الهيمان والله بهذا غاية الظرف، لا سيما إذا شام كافورة خدّه ذلك المسك الفتيت، وهجم على صبحه ذلك الليل البهيم، والله ما خلت سواده في بياضه إلا بياض الإيمان في سواد الكفر، أو غيهبا في ضوء الفجر، فقال للحصري: صفه، فقال: من ملك رقّ القول حتى انقاد له صعابه فذل له جموحه حتى سطع له شهابه، أقعد مني في ذلك، فقال: صفه، فإني معمل في ذلك فكري، فأطرق ساعة، فقال الحصريّ: [مجزوء الرجز]

أورد قلبي الرّدى ... لام عذار بدا

أسود كالكفر في ... أبيض مثل الهدى

فقال له الشيخ: أراك اطّلعت على ضميري، أو خضت بين جوانحي، فقال له الحصري: ولم ذاك؟ قال: لأني قلت: [مجزوء الرجز]

<<  <  ج: ص:  >  >>