للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فبالت، فبني على الموضع برج يسمى برج العصا- وأشرفت الزباء من قصرها تنظر إلى جذيمة، وهو يساق، فقالت: ما أحسنك من عروس يزف إليّ! فدخلوا به إليها، وحولها ألف وصيفة، لا تشبه واحدة صاحبتها في خلق ولا زيّ، وهي بينهنّ كالقمر حفت به النجوم، فأمرت بالأنطاع فبسطت، وقالت للوصائف: خذن بيد سيدكنّ وبعل مولاتكنّ، فأجلسنه على الأنطاع، ففعلن به ذلك، ثم كشفت له عن شعرتها، فرأى شعرها قد طال حتى عقدته من وراء ظهرها، فقالت له: يا جذيمة أشوار ذات عروس؟ قال: بل شوار بظراء تفلة، وأمر غدر قد بلغ المدى، فقالت: والله ما ذاك من عدم المواس، ولكنها شيمة أناس.

ثم أمرت به فسقي بالخمر حتى أخذت فيه، وكانت الملوك لا تضرب أعناقها إلّا في الحرب، ثم أمرت أن تقطع رواهشه (١)، وقالت: تحفّظن بدمه، لأنه إن قطرت من دمه قطرة في غير الطشت طلب بدمه، فجرى دمه في طشت ذهب، فلما ضعفت يداه سقطتا، فقطرت على النّطع من دمه قطرات، فقالت: لا تضيّعوا دم الملوك، فقال لها «لا يحزنك دم ضيّعه أهله»، فذهبت مثلا، فقالت: إن دماء الملوك شفاء من الكلب، وو الله ما وفّي دمك ولا شفي قتلك، ثم أمرت به فدفن.

وكان عمرو بن عدي يخرج كلّ يوم لبعض الحيرة، يستطلع أمر خاله، فنظر يوما إلى فارس قد أقبل، فأشرف عليه قصير، فقال له: ما وراءك؟ فقال له: سعى القدر بالملك إلى حتفه، فاطلب بثأره، فقال عمرو: وأيّ ثأر يطلب من الزّباء، وهي أمنع من عقاب الجوّ! فقال قصير: والله لا أنام عن طلب دمه ما لاح نجم، فاجدع أنفي واضرب ظهري، ودعني وإياها. فقال عمرو: ما أنت لذلك بأهل، وقد علمت نصحك لخالي.

فقال: خلّ عني إذا، فجدع أنفه ولحق بالزباء، فقالت: ما جاء بك؟ فأشار بظهره وأنفه- فقالت العرب: «لأمر ما جدع قصير أنفه! » فقالت: يا قصير، بيننا دم خطير، فقال: يا ابنة الملوك العظام لا ثأر ولا قود، ولقد أتيت فيه على ما يأتي مثلك في مثله، وقد جئتك مستجيرا بك من عمرو فإنه علم أني أشرت على خاله بالمجيء إليك، فجدع أنفي وأذني، وأوجع ظهري، وحال بيني وبين مالي وولدي، فاستجرت بك لعلمي أنّي لا أكون مع أحد أثقل عليه منك، فقالت له: أهلا وسهلا- وكان يبلغها من رأيه وحزمه- فاحتصّته وأنزلته واصطفته، فلما وثقت به، أخذت تستشيره في أمورها. فقال لها يوما:

إن عمرا يطلبك بخاله، والرأي أن تتخذي نفقا لعلك تحتاجين إليه، فقالت له: إنّي قد اتخذته تحت سريري، وخرجت به تحت سرير أختي- وكان الفرات يشق بين قصيريهما- فأظهر لها السرور، ثم قال لها: إنّ لي بالعراق أموالا كثيرة تصلح بالملوك فإن جهزتني بمال للتجارة، توصلت فيهإلى أخذ تلك الذخائر وننقلها إليك، فجهّزته. فاحتال حتى


(١) الرواهش: عروق ظاهر الكف.

<<  <  ج: ص:  >  >>