للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والأردية المطروزة، والدّور المنجّدة، والقصور المشيّدة. إنكم لن تأمنوا حادثا، ولن تعدموا وارثا، فبادروا الخير ما أمكن، وأحسنوا مع الدهر ما أحسن، فقد والله طعمنا السّكباج (١)، وركبنا الهملاج (٢)، ولبسنا الديباج (٣)، وافترشنا الحشايا بالعشايا، فما راعنا إلا هبوب الدهر بغدره، وانقلاب المجنّ لظهره، فعاد الهملاج قطوفا (٤)، والديباج صوفا، وهلمّ جرا إلى ما تشاهدون من حالي وزيّي؛ فها نحن نرتضع من الدهر ثدي عقيم، ونركب من الفقر ظهر بهيم، فلا نرنو إلّا بعين اليتيم، ولا نمدّ إلّا يد العديم. فهل من كريم يجلو غياهب هذه البئوس، ويفلّ شبا هذه النحوس. ثم قعد مرتفقا (٥)، وقال للطفل: أنت وشأنك، فقال: ما عسى أن أقول وهذا الكلام لو لقي الشّعر لحلقه، أو الصخر لفلقه، وإن قلبا لم ينضجه ما قلت لنيء، وقد سمعتم يا قوم، ما لم تسمعوا قبل اليوم فليشغل كلّ منكم بالجود يده، وليذكر غده، واقيا بي ولده، وامنحوني أشكركم، واذكروني أذكركم. وتمامها في العشرين.

***

فقيل له: قد جلوت علينا أدبك، فاجل لنا نسبك، فقال: تبّا لمفتخر، بعظم نخر، إنّما الفخر بالتّقى، والأدب المنتقى؛ ثم أنشد: [الطويل]

لعمرك ما الإنسان إلّا ابن يومه ... على ما تجلّى يومه لا ابن أمسه

وما الفخر بالعظم الرّميم وإنّما ... فخار الذي يبغي الفخار بنفسه

ثمّ إنّه جلس محقوقفا، واجرنثم مقفقفا. وقال: اللهمّ يا من غمر بنواله، وأمر بسؤاله؛ صلّ على محمد وآله، وأعنّي على البرد وأهواله، وأتح لي حرّا يؤثر من خصاصة، ويواسي ولو بقصاصة.

***

قوله: «جلوت»، أظهرت وكشفت. أجل: اكشف وبيّن عنه. تبّا: خسرانا. نخر:

بال. المنتقى: المختار. تجلّى: تبدّى وظهر. الرّميم: البالي. يبغي: يطلب.

وقوله: «تبّا لمفتخر، بعظم نخر»، كانت العرب تتفاخر بالأحساب، وتتعاظم بكرم الآباء، فنزل القرآن العظيم بترك ذلك في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: ١٠] وأَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣]. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع: «أيها الناس، إنما الناس إخوة وليس لعربيّ على عجميّ فضل إلا


(١) السكباج: لحم يطبخ بالخل ويجعل معه مرق.
(٢) الهملاج: الدابة السريعة.
(٣) الديباج: الحرير.
(٤) القطوف: الدابة البطيئة في سيرها.
(٥) قعد مرتفقا: أي قعد في مكان عال.

<<  <  ج: ص:  >  >>