والاقتدار، لا على أنها من نفيس الكلام الفصيح، ألا ترى الحريريّ كيف اعتذر في مثلها حيث قال: أجلّ الأبيات العرائس، وإن لم يكن نفائس؛ ولا شك أن الشارح لمثل هذه الرسالة يقارب تعب منشئها في أنه يغوص على تلك الاستعارات البعيدة، فيريد أن يبرز المعنى في غاية البيان، واللفظ في أغلبها موضوع على غاية الإبهام، فوقع التمانع، فلا يصل إلى عبارة متوسطة تتعلق بالمعنى، ولا تبعد من اللفظ إلا بعد جهد، فهذا عذرنا في هذه الرسالة الرقطاء والقهقرية والخيفاء المتقدمتين، وما علمت أحدا شرحها شرحنا ولا بلغ منها مبلغنا، ولله منشئها من عالم بارع! فما اتفق له إنشاؤها إلا بعد التبحّر في علوم اللغات حتى كأنّ أبا حفص بن برد يخاطبه بهذه الأبيات:[البسيط]
أبا العلاء استمع تعريض ذي مقة ... أهدي لك الودّ محضا غير مقطوب
أنت الذي لم نعاشر مثله رجلا ... في العلم والظرف والآداب والطيب
تحصيل فضلك للحسّاد معجزة ... وكنه علمك شيء غير محسوب
أمّا اللغات فما يعقوب يبلغ ما ... وعيت منها ولا أشياخ يعقوب
***
قال: فلمّا استشفّ الأمير لآليها، ولمح السّرّ المودع فيها، أوعز في الحال بقضاء ديني، وفصل بين خصمي وبيني، ثمّ استخلصني لمكاثرته، واختصّني بأثرته، فلبثت بضع سنين أنعم في ضيافته، وأرتع في ريف رأفته؛ حتّى إذا غمرتني مواهبه، وأطال ذيلي ذهبه، تلطّفت في الارتحال، على ما ترى من حسن الحال.
قال: فقلت له شكرا لمن أتاح لك لقيان السّمح الكريم، وأنقذك من ضغطة الغريم، فقال: الحمد لله على سعادة الجدّ، والخلوص من الخصم الألدّ، ثم قال:
أيّما أحبّ إليك؟ أن أحذيك من العطاء، أم أتحفك بالرسالة الرّقطاء، فقلت:
املاء الرسالة أحبّ إليّ، فقال: وهو وحقّك أخفّ عليّ، فإنّ نحلة ما يلج في الآذان، أهون من نحلة ما يخرج من الأردان. ثمّ كأنّه أنف واستحيا، فجمع لي بين الرّسالة والحذيا، ففزت منه بسهمين، وفصلت عنه بغنمين، وأبت إلى وطني قرير العين، بما حزت من الرسالة والعين.
قوله: استشفّ، نظر، لآليها: جواهر كلامها، لمح: رأى. المودع: المضمّن المجعول، وعنى بالسرّ ما ذكر من النقط لحرف والترك لآخر، أوعز: تقدم، فصل:
قطع، استخلصني: ضمني وأنقدني منه. لمكاثرته: لزيادة عدده، يريد أن الأمير خلّصه من غريمه وضمه إليه، وجعله فيمن حواليه فكثروا به. اختصني بأثرته: أفردني