للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أهلك السفر، على ما أرى من حداثة سنك، ثم قامت تصبّ في ركوتي ماء وعليها شوذب، فلما انحطت على القربة رأيت مرأى لم أر أحسن منه، فلهوت بالنظر إليها، وهي تصبّ الماء فيذهب يمينا وشمالا، فقالت العجوز: يا بنيّ ألهتك ميّ عما بعثك له أهلك، أما ترى الماء يذهب يمينا وشمالا؟ قلت: أما والله ليطولنّ هيامي بها ثم أتيت بالماء أخي وابن عمي فلففت رأسي، وانتبذت ناحية وقلت: [الرجز]

قد سخرت أخت بني لبيد ... منّي ومن سلم ومن وليد (١)

رأت غلامي سفر بعيد ... يدرعان اللّيل ذا السدود

مثل ادّراع اليلمق الحديد

وهي أول قصيدة قلت: ثم مكثت أهيم بها في ديارها عشرين سنة.

وأما ابن قتيبة فقال: مكثت ميّ تسمع شعر ذي الرّمة ولا تراه، فجعلت لله أن تنحر بدنه يوم تراه- وكانت من أجمل الناس- فلما رأته دميما أسود صاحت: وا سوأتاه! وا ضيعة بدنتاه! فقال: [الطويل]

على وجه ميّ مسحة من ملاحة ... وتحت الثياب الشّين لو كان باديا (٢)

فكشفت عن جسدها، قالت: أشينا ترى لا أمّ لك! فقال: [الطويل]

ألم تر أن الماء يخبث طعمه ... وإن كان لون الماء أبيض صافيا

فقالت له: قد رأيت ما تحت الثياب، فلم يبق إلا أن أقول لك: هلمّ فذق ما وراءه، فو الله لا ذقت ذلك أبدا، ثم صلح الأمر بينهما، فعادا لما كانا من حبّهما.

وهو شاعر مجيد مكثر وصّاف للأطلال والديار والصبر على قطع القفار. أبو الفرج: كان سليمان بن أبي شيخ، رواية لشعر ذي الرّمة، فأنشد يوما قصيدة له وأعرابي من بني عدي بسمعه فقال: أشهد أنك فقيه تحسن ما تلوته، وكان يحسبه قرآنا.

وكان أهل البادية يعجبهم شعره، وكان جرير والفرزدق يحسدانه، وقال حماد الرواية: ما أخّر القوم ذكره إلا لحداثة سنه، وأنهم حسدوه.

وقال أبو المطرّف: لم يكن أحد منهم في زمانه أبلغ منه، ولا أحسن جوابا، وكان كلامه أحسن من شعره.

وقال مولى لبني هاشم: رأيته بسوق المريد وقد عارضه رجل فقال: يا أعرابيّ- يهزأ به- أتشهد بما لم تر! قال: نعم قال: بماذا، قال: إن أباك ناك أمك.


(١) الرجز في ديوان ذي الرمة ص ٣٢٨ - ٣٣٠.
(٢) البيت في ديوان ذي الرمة ص ١٩٢١، ولسان العرب (مسح)، وتهذيب اللغة ٤/ ٣٤٩، ومعجم البلدان (الملا)، ووفيات الأعيان ٤/ ١٢، ومعاهد التنصيص ٣/ ٢٦١، والعقد الفريد ٦/ ٤١٣، والأغاني ١٨/ ٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>