للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأصمعي: ما أعلم أحدا من العشاق شكا أحسن من شكوى ذي الرّمة، مع عفّة وعقل.

أبو عبيدة: يخبر ذو الرّمة فيحسن الخبر، ثم يردّ على نفسه فيحسن الرّد، ثم يعتذر فيحسن التخلص. مع حسن إنصاف في الحكم وعفاف.

وقال ذو الرّمة: من شعري ما ساعدني فيه القول ومنه ما أجهدت نفسي فيه، ومنه ما جننت فيه جنونا، فأما الذي طاوعني فيه القول فقولي: [الطويل]

خليليّ عوجا في صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل (١)

لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل

وأما ما أجهدت نفسي فيه فقولي: [البسيط]

أأن توسّمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم (٢)

كأنها بعد أحوال مضين لها ... بالأشيمين يمان فيه تسهيم

وأما الذي جنت فيه جنونا فقولي: [البسيط]

ما بال عينك منها الماء ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب (٣)

براقة الجيد واللبّات واضحة ... كأنها ظبية أفضى بها لبب

زين الثياب وإن أثوابها استلبت ... فوق الحشية يوما زانها السلب

إذا أخو لذة الدنيا تبطّنها ... والبيت فوقهما بالستر محتجب

ساقت بطيّبة العرنين مارنها ... بالمسك والعنبر الهنديّ مختضب

لمياء في شفتيها حوّة لعس ... وفي اللّثات وفي أنيابها شنب

كحلاء في برج، بيضاء في دعج ... كأنها فضة قد زانها ذهب

وهذه القصيدة من المطولات التي نيّفت على المائة وربعها، وتصرّف فيها ما شاء من أوصاف الأطلال والديار والثور والحمار والكلاب والظبي وغير ذلك. وفي خلال ذلك يأتي بتشبيهات بديعات، وهو أشعر الشعراء الإسلاميين في التشبيه. وكان يقول: إذا قلت «كأنّ» فلم أجد مخرجا فقطع الله لساني.


(١) البيتان في ديوان ذي الرمة ص ٢٩٥.
(٢) البيتان في ديوان ذي الرمة ص ٣٧١، والخصائص ٢/ ١١، والصاحبي في فقه اللغة ص ٥٣، ولسان العرب (رسم)، (عنن)، (عين)، ومجالس ثعلب ص ١٠١، ويروى «أعن ترسّمت» بدل «أأن توسّمت».
(٣) الأبيات في ديوان ذي الرمة ص ٩، والبيت الأول في لسان العرب (سرب)، (غرف)، (عجل)، ومقاييس اللغة ٣/ ١٥٥، والمخصص ٧/ ١٢٨، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١٢/ ٤١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>