واحتذى في ذلك حذوه من المولدين ابن المعتز، وقصده الحريري في هذا الموضع لمعنيين: أحدهما لأنه كان صادقا في حبّ مية فكان لا يشغله عنها شيء، لا مثل كثير عزة وغيره ممن لا يصدق في حبه، والثاني أنه يكثر في شعره صبره على قطع الهواجر لمية مثل قوله:[الطويل]
وهاجرة من دون ميّة لم تقل ... قلوصي بها والجندب الجون يرمح (١)
إذا جعل الحرباء مما أصابه ... من الحرّ يلوي رأسه ويرنّح
لئن كانت الدنيا عليّ كما أرى ... تباريح من ميّ فللموت أروح
ولما شكوت الحب كيما تثيبني ... بودّي قالت إنما أنت تمزح
فذكر الحريري أن هذه الهاجرة شغلته عن ذكر ميّ حتى طلب ظلّا يلوذ به.
***
وكان يوما أطول من ظلّ القناة، وأحرّ من دمع المقلات فأيقنت أني إن لم أستكن من الوقدة. واستحمّ بالرّقدة، وأدنفني اللغوب، وعلقت بي شعوب، قعجت إلى سرحة كثيفة الأغصان، وريقة الأفنان، لأغوّر تحتها إلى المغيربان؛ فو الله ما استروح نفسي، ولا استراح نفسي حتّى نظرت إلى سانح، في هيئة سائح؛ وهو ينتجع نجعتي، ويشتدّ إلى بقعتي، فكرهت انعياجه إلى معاجي؛ فاستعذت بالله من شرّ كلّ مفاجئ، ثمّ ترجّيت أن يتصدّى منشدا، أو يتبدّى مرشدا فلما اقترب من سرحتي، وكاد يحلّ بساحتي، ألفيته شيخنا السّروجيّ، متّشحا بجرابه.
ومضطغنا أهبة تجوابه، فآنسني إذ ورد، وأنساني ما شرد، ثمّ استوضحته من أين أثره، وكيف عجره وبجره.
وذكر طول اليوم القصير وأنشد عليه في الشرح:«ويوم كظل الرمح ... »، وذكر أنّ اليوم القصير يوصف بإبهام القطاة، ولم ينشده عليه شيئا، وقال جرير:[الطويل]
(١) الأبيات في ديوان ذي الرمة ص ١٢١٢، والبيت الأول في لسان العرب (رمح)، وتهذيب اللغة ٥/ ٥٣، وهو بلا نسبة في المخصص ٨/ ١٧٧، وكتاب العين ٣/ ٢٢٦، ويروى «ومجهولة» بدل «وهاجرة».