للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المنازل: فيكتبون فيها ما لا خير فيه، قلت: وما هو؟ قال: ألا ترى ما على الحائط مكتوبا: [الطويل]

أبا جعفر حانت وفاتك وانقضت ... سنوك، وأمر الله لا بدّ نازل

أبا جعفر، هل كاهن أو منجّم ... يردّ قضاء الله أم أنت جاهل؟

فقلت: والله ما على الحائط شيء، وإنه لنقيّ أبيض، قال: والله، قلت: والله.

قال: إنها والله نفسي نعت إليّ الرحيل، بادر بي إلى حرم الله وأمنه هاربا من ذنوبي وإسرافي على نفسي، فرحلنا، وثقل حتى بلغ بئر ميمون، فقلت له: قد دخلت الحرم، قال: الحمد لله، وقبض من يومه، ولمّا حضرته الوفاة، قال: هذا هو السلطان، لا سلطان من يموت.

عليّ بن يقطين، قال: لمّا كنا مع المهديّ بماسبذان، قال لي: أصبحت جائعا فائتني بأرغفة ولحم بارد، فأكل ونام في البهو، فما استيقظ إلا لبكائه، فبادرنا فقال: أما رأيتم ما رأيت، وقف عليّ رجل لو كان في ألف ما خفي عليّ، فقال: [الطويل]

كأنّي بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله

وصار عميد الملك من بعد بهجة ... إلى قبره تحثى عليه جنادله

فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... ينادى عليه معولات حلائله

فما أتت عليه عشرة أيام حتى توفّي.

قال الأصمعيّ: دخلت على الرشيد يوما، وهو ينظر في كتاب، ودموعه تنحدر على خده، فالتفت وقال: اجلس، أرأيت ما كان منّي؟ قلت: نعم، قال: أما إنه لو كان من أمر الدنيا ما رأيت هذا، ثم رمى إليّ به، فإذا فيه مكتوب لأبي العتاهية: [الكامل]

يا مؤثر الدنيا بلذّتها ... والمستعدّ لمن يفاخره (١)

نل ما بدا لك أن تنال من ال ... دّنيا فإنّ الموت آخره

هل أنت معتبر بمن خربت ... منه غداة قضى عساكره

وبمن خلت منه أسرّته ... وبمن خلت منه منابره

أين الملوك وأين غيرهم ... صاروا مصيرا أنت صائره

ثم قال: كأنّي أخاطب بهذا دون كلّ الناس، فلم يلبث إلا قليلا حتى مات.

ولمّا رجع المأمون من غزوته التي افتتح فيها أربعة عشر حصنا نزل على عين تعرف بالعشيرة، ينتظر رجوع رسله من الحصون، فأعجبه برد مائها وصفاؤه، وحسن


(١) الأبيات في ديوان أبي العتاهية ص ١٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>