للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بياضه وكثرة الخضرة والخصب بالموضع، وجلس على خشب بسط له على الماء، وطرح فيه درهم، فقرأ كتابته في قرار الماء لصفائه، ولم يقدر أحد يدخل الماء لشدّة برده، فلاحت سمكة نحو الذراع، كأنها سبيكة فضة، فنزل بعض الفرّاشين فأخذها، فاضطربت في يده وتململت، ووقعت في الماء، فنضح منه على صدر المأمون، ثم أخذها ووضعها بين يديه في منديل، تضطرب، فأمر بأن تقلى الساعة، فأخذته رعدة من ساعته، ولم يقدر يتحرّك، فغطّي باللحف، وهو يرتعد، ويصيح: البرد، فأتي بالسمكة فلم يقدر عليها، وسال على جسمه عرق كالرّب لم يعرفه الأطباء، فلما ثقل قال: أخرجوني أنظر إلى عسكري، وأنظر إلى مالي وملكي، وذلك ليلا، فأشرف على الجيش وانتشاره ونيرانه: فقال: يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه، فلما ثقل رنا بطرفه نحو السماء، وقد امتلأت عيناه دموعا، فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت، وقضي عليه من ساعته.

وكان كثيرا ما ينشد: [المتقارب]

ومن لم يزل غرضا للمنو ... ن تتركه ذات يوم عميدا

وإن أخطأت مرة نفسه ... فيوشك مخطئها أن يعودا

فبينا يحيد وتخطئنه ... قصدن فأعجلنه أن يحيدا

وذكر أبو المواريث قاضي نصيبين، أنه رأى في المنام ليلة قائلا، يقول: [البسيط]

يا نائم الليل في جثمان يقظان ... ما بال عينيك لا تبكي بتهتان

إن الليالي لم تحسن إلى أحد ... إلا أساءت إليه بعد إحسان

هلا رأيت صروف الدهر ما فعلت ... بالهاشميّ وبالفتح بن خاقان

- يعني المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان- قال: فأتى البريد بقتلهما في تلك الليلة.

وقال سابق البربريّ: [البسيط]

وربّ أغيد ساجي الطّرف معتصب ... بالتاج نيرانه للحرب تستعر

يظلّ مفترش الدّيباج محتجبا ... إليه تبنى قباب الملك والحجر

قد غادرته المنايا فهو مستلب ... مجندل ترب الخدّين منعفر

***

همّه سكّ المسامع، وسحّ المدامع، وإكداء المطامع، وإرداء المسمع والسّامع عمّ حكمه الملوك والرّعاع، والمسود والمطاع، والمحسود والحسّاد، والأساود والآساد، ما موّل إلّا مال، وعكس الآمال، وما وصل إلّا وصال،

<<  <  ج: ص:  >  >>