للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان محمد بن نافع الواعظ صديقا لأبي نواس، قال: فلما بلغني موته أشفقت عليه، فرأيته في النوم، فقلت: أبا نواس، فقال: لات حين كناية! قلت: الحسن، قال:

نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر الله لي، قلت: بأيّ شيء؟ قال: بتوبة تبتها قبل موتي، بأبيات قلتها، قلت: أين هي؟ قال. عند أهلي. فسرت إلى أمّه، فلما رأتني أجهشت بالبكاء، فقلت: إني رأيت كذا، فكأنها سكنت، وأخرجت إليّ كتبا مقطعة، فوجدت بخطه كأنه قريب: [الكامل]

يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم

إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الّذي يدعو ويرجو المجرم

أدعوك ربّ كما أمرت تضرّعا ... فإذا رددت يدي، فمن ذا يرحم!

ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وجميل ظنّي، ثم إني مسلم

وإنما قال: «لات حين كناية» لأنّ العرب لا تكني الميت إنما تدعوه باسمه، قال الراجز: [الرجز]

وقام نسوة بجنب حفرتي ... بنات أختي وبنات إخوتي

* يدعون باسمي وتناسوا كنيتي*

وقال آخر: [الطويل]

فقد جعلت تدعى كلاب بن جعفر ... بأسمائها لأبا لكنى لا تجيبها

***

قال: فلمّا انتهى إلى هذا البيت لجّ في الاستعبار، وألظّ بالاستغفار، حتّى استمال هوى قلبي المنحرف، ورجوت له ما يرجى للمقترف المعترف. ثمّ إنّه غيّض دمعه المنهلّ، وتأبّط جرابه وانسلّ، وقال لابنه: احتمل الباقي، والله الواقي.

قال المخبر بهذه الحكاية: فلمّا رأيت انسياب الحيّة والحييّة، وانتهاء الدّاء إلى الكيّة، علمت أن تريّثي بالخان، مجلبة للهوان، فضممت رحيلي، وجمعت للرّحلة ذيلي، وبت ليلتي أسري إلى الطّيب، وأحتسب الله على الخطيب.

***

قوله: لجّ في الاستعبار، أي أكثر في البكاء. ألظّ: ألحّ، وألظّ به: دار عليه.

استمال: استعطف وأماله إليه. المنحرف: المائل عنه. المقترف: المكتسب الإثم، ويقال: قرف فلان فلانا، إذا ألصق به عيبا وكسبه ذنبا، واقترف فلان ذنبا، أي اكتسبه وألصقه بنفسه. المقترف: المقرّ بذنبه.

<<  <  ج: ص:  >  >>