ليسألني من شاء عمّا شاء، فقام إليه أحد الأغفال، فقال له: ما الفتيل والقطمير؟ فلم يحر جوابا، وأفحمه ونزل خجلا، وانصرف إلى منزله كسلا. فلما نظر اللفظتين وجد نفسه أذكر الناس بهما، وهذا من عقاب العجب.
ورأيت في بعض الأخبار أنّ ابن قتيبة سئل عن حرف لغة فلم يعلمه وقت السؤال- وكان أبيض مشربا بحمرة- فلما وجد الحرف غلبت الحمرة على وجهه، حتى طفئ أسفا على فوت الحرف وقت الحاجة، ولعله كان ما قدّمنا في الحكاية.
وقال قتادة: ما سمعت قطّ شيئا إلا حفظته، ولا حفظت قطّ شيئا فنسيته. ثم قال:
يا غلام هات نعلي، فقال: هما في رجليك، ففضحه الله.
وقال قتادة: حفظت ما لم يحفظ أحد قطّ، ونسيت ما لم ينس أحد قطّ، حفظت القرآن في سبعة أشهر، وقبضت على لحيتي، وأنا أريد أن أقطع ما تحت يدي، فقطعت ما فوقها.
وكان بشريش رجل من أهل الدين والورع، وحجّ في أيام أبي حامد وصحبه، ففاتت صلاة الصبح يوما لأحد أصحابه، فلامه على ذلك، فاعتذر له صاحبه فلم يعذره.
ثم قال له على معنى الترغيب: كملت لي اليوم عشرون سنة، ما فاتتني صلاة الصبح في جماعة، فلمّا كان في اليوم الثاني أدرك الحاج من صلاة الصبح ركعة واحدة، فلما لقيه صاحبه بعد الصلاة قال له: هذا كما رأيت. وإنما ذكرت عملك على معنى التبصرة والإرشاد، فلو ذكرته على غير ذلك لفاتتك، وإذا كان موسى كليم الله قد عاتبه الله على الانتحال، حين سئل: أيّ الناس اليوم أعلم؟ قال: أنّا، وابتلي بالسفر حتى لقي الخضر، وجلس إليه راغبا في أن يعلّمه، والخضر لا ينبسط له في التعليم، ونقر عصفور في البحر، فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله تعالى، إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
وروي عن عبد الملك بن حبيب من طريق وهب بن منبّه: أنّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: أتدري لم كلّمتك؟ قال: لا يا ربّ، قال: إني اطّلعت على قلوب العباد فلم أر فيها قلبا أشدّ تواضعا من قلبك، قال المنجم: [السريع]
لكل شيء في الورى آفة ... وآفة المرء من الكبر
وقال آخر: [الكامل]
الكبر يأس والتواضع رفعة ... والمزح والضحك الكثير سقوط
والحرص فقر والقناعة رفعة ... واليأس من روح الإله قنوط
فينبغي لكل عاقل أن يقول: ما أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم بقوله: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤]، ولا يرى لنفسه حظّا، ويشكر الله تعالى على ما أعطاه فهو بالأدب أليق، وبالشرع أوفق.