قريش يشتكي إلي الحاجة فأخبرته خبري، وقلت له: خذ ما تحبّ، فقال لي: ما يقنعني إلّا أكثر من هذه الدنانير، فقلت له: فخذها، وبتّ وما معي دينار ولا درهم، فبينا أنا في منزلي إذ أتاني رسول جعفر بن يحيى البرمكي يقول: أجب الوزير، فأجبته. فقال: ما شأنك في هذه الليلة؟ يهتف بي هاتف كلّما دخلت في النوم، يقول: الشافعيّ الشافعيّ، فأخبرته بالخبر، فأعطاني خمسمائة دينار، ثم قال: أزيدك فأعطاني خمسمائة أخرى، فلم يزل يزيدني حتى أعطاني ألفي دينار. ومن جوده أن سوطه وقع من يده، فأعطى من ناوله إياه خمسين دينار وورد مكة بعشرة آلاف درهم، فضرب خباءه خارجها، فأتاه الناس، فما برح من موضعه حتى فرّقها.
وكان شاعرا مجيدا، قال أبو القاسم بن الأزرق: دخلت عليه، فقلت له: يا أبا عبد الله، أما تنصفنا! لك هذا الفقه تفوز بفوائده، ولنا هذا الشعر، وقد جئت تداخلنا فيه! فإمّا أفردتنا أو أشركتنا في الفقه، وقد أتيت بأبيات إن أجزتها بمثلها تبت من الشّعر، وإن عجزت تب منه، فقال لي: إيه يا هذا، فأنشدته هذا الكلام: [الكامل]
ما همّتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان وهمّتي لم تخلق
والنّاس أعينهم إلى سبب الغنى ... لا ينظرون إلى الحجا والأولق
لكنّ من رزق الحجا حرم الغنى ... ضدّان مفترقان أيّ تفرق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلّقي
فقال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: ألا قلت كما أقول ارتجالا: [الكامل]
إن الذي رزق اليسار فلم ينل ... حمدا ولا أجرا لغير موفّق
فالجدّ يدني كلّ أمر شاسع ... والجدّ يفتح كلّ باب مغلق
فإن سمعت بأنّ مجدودا حوى ... عودا فأثمر في يديه فحقّق
وإذا سمعت بأنّ محروما أتى ... ماء ليشربه فغاض فصدّق
وأحقّ خلق الله بالهمّ امرؤ ... ذو همّة يبلى بعيش ضيّق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
فقلت له: لا قلت شعرا بعدها.
قال المبرّد: كان الشافعيّ رضي الله عنه أشعر الناس وآدب الناس، وأعرفهم بالفقه والقراءات، ولقد أخبرني بعض أصحابي أنه مات ولد لعبد الرحمن بن مهديّ، فكتب إليه الشافعي رضي الله عنه: يا أخي، عزّ نفسك بما تعزّي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك. واعلم أن أمضّ المصائب فقد سرور، وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر! فتناول حظّك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد نأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبرا، وأحرز لنا ولك بالصبر أجرا، وكتب إليه: [البسيط]