فقال: ما أحسن ما قال! فأنشدني أحسن ما قالته العرب في السّكوت فأنشدته:
[الكامل]
إني ليهجرني الصديق تجنّبا ... فأريه أن لهجره أسبابا
وأراه إن عاتبته أغريته ... فيكون تركي للعتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل متحكّم ... بجد المحال من الأمور صوابا
أوليته منّي السكوت وربّما ... كان السكوت عن الجواب جوابا
فقال: ما أحسن ما قال! ثم قال: ما مالك يا نضر؟ قلت: أريضة بمرو. الروذ أتصابها وأتمزّزها، قال: أفلا نفيدك مالا معها؟ قلت: إن رأى ذلك أمير المؤمنين، فإني لذلك لمحتاج.
فأخذ القرطاس وكتب وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال: كيف تأمر إذا أردت أن تترب الكتاب، قلت: يا غلام أترب الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب، قال: فمن السّحاة، قلت: يا غلام اسح الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مسحى، قال: فمن الطين، قلت: يا غلام طن الكتاب، قال: فهو ماذا؟ قلت: مطين ومطان، فقال: هذه أحسن من الأولى، ثم قال: يا غلام أتريه واسحه وطنه. ثم صلّى بنا العشاء، ثم قال لغلامه: امض معه إلى الفضل بن سهل بهذا الكتاب، فلمّا قرأه قال: بم استأهلت أن يأمر لك أمير المؤمنين بخمسين ألف درهم؟ وما سبب ذلك؟ فأخبرته الحديث على جهته، فقال:
لحنّت أمير المؤمنين، فقلت: كلّا إنما لحن هشيم- وكان لحّانة- فتبع أمير المؤمنين ألفاظه، وقد تتبع ألفاظه الفقهاء ورواة الأخبار. فعجّل لي ما في الكتاب، وأمر لي من عنده بأربعين ألف درهم، فانصرفت بتسعين ألف درهم بحرف استفاده مني.
وهذا الخبر جاء في أخبار النحويين. وذكره الحريري في درّة الغواص بأخصر مما ذكرناه، ثم قال بإثر الخبر: وقد أذكرني هذا المثل أبياتا أنشدنيها أحد أشياخي رحمهم الله لأبي الهيذام: [الرمل]
لي صديق هو عندي عوز ... من سداد لا سداد من عوز
وجهه يذكّرني دار البلى ... كلّما أقبل نحوي وضمز
وإذا جالسني جرّعني ... غصص الموت بكرب وعلز
يصف الودّ إذا شاهدني ... وإذا غاب وشى بي وهمز
كحمار السّوء يبدي مرحا ... فإذا سيق إلى الحمل غمز
ليتني أعطيت منه بدلا ... بنصيبي شرّ أولاد المعز
قد رضينا بيضة فاسدة ... عوضا منه إذا البيع نجز
***