وقال الأخفش: "إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميًّا". وصدق الجاحظ والأخفش، وقد كان الخطر قديمًا في الكتب المخطوطة، وهو خطر محصور، لقلة الأيدي إليها، مهما كثرت وذاعت، فماذا كانا قائلين لو رأيا ما رأينا من المطابع، وما تجترحه من جرائم تسميها كتبا، ألوف من النسخ من كل كتاب، تنشر في الأسواق والمكاتب، تتناولها أيدي الناس، ليس فيها صحيح إلا قليلًا، يقرؤها العالم المتمكن، والمتعلم المستفيد، والأمي الجاهل، وفيها أغلاط واضحة، وأغلاط مشكلة، ونقص وتحريف، فيضطرب العالم المتثبت، وإذا هو وقع على خطأ في موضع نظر وتأمل، ويظن بما علم الظنون، ويخشى أن يكون هو المخطئ، فيراجع ويراجع، حتى يستبين له وجه الصواب، فإذا به قد أضاع وقتًا نفيسًا، وبذل جهدًا هو أحوج إليه، ضحية لعب من مصحح في مطبعة، أو عمد من ناشر أمي، يأبى إلا أن يوسد الأمر إلى غير أهله، ويأبي إلا أن يركب رأسه، فلا يكون مع رأيه رأي، ويشتبه الأمر على المتعلم الناشئ في الواضح والمشكل، وقد يثق بالكتاب ين يديه، فيحفظ الخطأ ويطمئن إليه، ثم يكون إقناعه بغيره عسيرًا، وتصور أنت حال العامي بعد ذلك. وأي كتب تبتلى هذا البلاء؟ كتب هي ثروة ضخمة من مجد الإسلام ومفخرة للمسلمين، كتب الدين والعلم، التفسير والحديث، والأدب والتاريخ وما إلى ذلك من علوم أخرى.