للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غنى بها الممزوجة بالماء، ثم قال: من بعد: كلتاهما حلب العصير، يريد الخمر المحتلبة من العنب، والماء المتحلب من السحاب، المكنّى عنها بالمعصرات في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: ١٤]، قال الشيخ الإمام الأجلّ الأوحد العالم أبو محمد أدام الله سعادته: فهذا ما فسره به عبيد الله بن الحسن.

وقد بقي في الشعر ما يحتاج إلى كشف سرّه، وتبيان نكته، أما قوله: [الكامل]

إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت ...

فإنه خاطب به السّاقي الذي كان ناوله كأسا ممزوجة، لأنه يقال: قتلت الخمر إذا مزجتها، فكأنه أراد أن يعلمه أنه قد فطن لما قد فعله ثم ما اقتنع منه بذلك حتى دعا عليه بالقتل في مقابلة المزج، وقد أحسن كلّ الإحسان في تجنيس اللفظ ثم إنه عقّب الدعاء عليه بأن استعطى منه ما لم تقتل- يعني الصّرف- التي لم تمزج.

وقوله: أرخاهما للمفصل، يعني اللّسان، وسمّي مفصلا بكسر الميم، لأنه به يفصل بين الحق والباطل، وليس فيما اعتمده عبيد الله بن الحسن من الإسماح وخفض الجناح، ما يقذف في نزاهته أو يغض من نبله وبراعته.

ويضارع هذه الحكاية في وطأة القضاة المتقشفين للمستفتين وتلاينهم في مواطن اللّين، ما يحكى أن حامد بن العباس، سأل عليّ بن عيسى في ديوان الوزارة عن داء الخمار، وعن دوائه، فأعرض عن كلامه، وقال: ما أنا وهذا المسألة! فخجل حامد منه، ثم التفت إلى قاضي القضاة أبي عمرو، فسأله عن ذلك فتنحنح القاضي لإصلاح صوته، ثم قال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [المائدة:

٤١]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «استعينوا على الصناعات بأهلها» (١)، والأعشى هو المشهور في الجاهلية بهذه الصناعة، قال: [المتقارب]

وكأس شربت على لذّة ... وأخرى تدويت منها بها (٢)

لكي يعلم النّاس أنّي امرؤ ... أتيت المروءة من بابها

ثم تلاه أبو نواس في الإسلام، فقال: [البسيط]

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء ... وداوني بالّتي كانت هي الدّاء (٣)


(١) أخرجه بمعناه البخاري في الصلاة باب ٦٤.
(٢) البيتان في ديوان الأعشى ص ١٧٣، ويروى البيت الأول:
وكأس شربت على لذة ... دهاق ترنّح من ذاقها
وهو بلا نسبة في أساس البلاغة (رنح)، وتاج العروس (رنح).
(٣) البيت في ديوان أبي نواس ١/ ٢١، وخزانة الأدب ١١/ ٤٣٤، والدرر اللوامع ٤/ ١٤٢، ومغني اللبيب ص ١٥٠، وهمع الهوامع ٢/ ٢٩، وبلا نسبة في لسان العرب (شفع).

<<  <  ج: ص:  >  >>