للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ووقع هذا في نثر البديع، قال في مخاطبة أبي الفتح عيسى: أظعنا تريد؟ قلت: إي والله، قال: أخصب رائدك، ولا ضلّ قائدك، فمتى عزمت؟ قلت: غداة غد، فقال:

[الوافر]

صباح الله لا صبح انطلاق ... وطير الوصل لا طير الفراق

وقال السّعد لا يعدوك دأبا ... يصاحبكم إلى يوم التّلاقي

فأين تريد؟ قلت: الوطن، قال: بلّغت الوطن، وقضيت الوطر، فمتى العود؟

قلت: القابل، فقال: طويت الرّيط (١)، وثنيت الخيط، فأين أنت من الكرم؟ قلت: بحيث أردت، فقال: إذا رجعك الله سالما من هذا الطريق؛ فاستصحب لي عدوّا في ثياب صديق، من نجار الصّفر، يدعو إلى الكفر، ويرقص على الظّفر، كدارة العين، يحطّ ثقل الدين، وينافق بوجهين. فعلمت أنه يلتمس دينارا، فقلت: ذلك لك نقدا، ومثله وعدا، فأنشأ يقول: [مخلع البسيط]

رأيك ممّا خطبت أعلى ... لا زلت للمكرمات. أهلا

صلبت عودا، ودمت فردا ... وطبت فرعا وطبت أصلا

يا واحد الدهر والمعالي ... لا لقي الدّهر منك ثكلا

قوله: «عدوّا في ثياب صديق» من قول أبي نواس: [الطويل]

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشّفت ... له عن عدوّ في ثياب صديق (٢)

قوله: «الرامق» أي الناظر، ورمقت الشيء رمقا أتبعت النظر إليه. وزينة المعشوق التي في الدينار: نقشه وتزيينه، ولون العاشق: صفرته، فالناظر في الدينار يرى في الظاهر زينته فيهواه، فيقع على ما وقع عليه باطن العاشق من العذاب والغرام، ويدلّ على ذلك صفرته الظّاهرة عليه. وقال ابن ظفر: زينة المعشوق غرور مدعاة إلى التهوّر في الغرام، ولون العاشق وهو الأصفر دليل على ما أسرّ من شاغف الكلف، فالغافل ينظر من الدينار مثل زينة المعشوق مجرّدة عن عاقبتها، فيصيده الهوى، والعاقل ينظر منه إلى لون العاشق، فيستدلّ على باطن الجوى ذوي الحقائق، يعني أهل الرشد والعلم، والذين ينظرون إلى ما في الدنيا بعين الحقيقة.

ثم لولا حبّ الدنيا ما سرق السارق، فيستوجب قطع يده، أو بعض أعضائه، واليد يجب قطعها بربع دينار ذهب. ومن ملح السّرقة أن الجاحظ حكىأن رجلين كان أحدهما أيمن، والآخر أعسر، فكان الأيمن يفخر على الأعسر، فأخذا في سرقة، فقطعت أيمانهما، فكان الأعسر يعمل بيساره أعماله كلها، والأيمن لا يستطيع أن يعمل بيساره


(١) الريط: جمع ريطة، وهي الملاءة.
(٢) البيت في ديوان أبي نواس ص ١٩٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>