للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي نسب الخضر الختلاف، منهم من جعله من قابيل بن آدم، ومنهم من يجعل بينه وبين سام بن نوح خمسة آباء، ويجعله من ذريّة سام، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما سمّي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء، فإذا هي تهتزّ خضرة» (١). والفروة: الأرض البيضاء، وقصته مع موسى مشهورة. وقيل إن موسى صاحبه غير موسى بن عمران. وقال موسى للخضر حين فارقه: عظني فقال: لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، فكما تذهب بأمل صادق فتخيب، قد تذهب بأمل كاذب فتصيب، وتذهب للحقير، وتدرك الجليل. وقد ذهب موسى ليقتبس نارا، فكلّمه ربه. وقد تقدّم هذا.

قال ابن عبد ربه: مما جبل عليه الحرّ الكريم، ألّا يقنع من شرف الدنيا والآخرة بشيء مما انبسط له من أمر الدنيا، بل يكون أمله فيما هو أسنى درجة وأرفع مرتبة، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو عامل بالمدينة لدكين الراجز: إن لي نفسا توّاقة، فإذا بلغك أني صرت إلى أشرف من منزلتي فأتني. فلما صار خليفة أتاه، فقال: أنا أعلمتك أن لي نفسا توّاقة، وأنّ نفسي تاقت إلى أشرف منازل الدنيا منزلة، فلما بلغتها وجدتها تتوق إلى أشرف منازل الآخرة منزلة.

ومن الشاهد لهذا المعنى أنّ موسى عليه السلام لمّا كلمه ربه تكليما سأله، النظر إليه إذ كان ذلك- لو وصل إليه- أشرف من المنزلة التي نالها؛ فالحرّ الكريم لا يقنع بمنزلة إلا رجاء أشرف منها قال: ومن قولنا في هذا المعنى: [البسيط]

والحرّ لا يكتفي أبدا من نيل منزلة ... حتى ينال الّتي من دونها العطب

يسعى به أمل من دونه أجل ... إن كفّه رهب يدعو به رغب

لذاك ما سأل موسى ربّه: أرني ... أنظر إليك وفي تسآله عجب

يبغي التزيّد فيما نال من كرم ... وهو النجيّ لديه الوحي والكتب

وقال حبيب: [الطويل]

ذريني وأهوال الزمان أقاسها ... فأهواله العظمى تليها رغائبه (٢)

***

قال: فلمّا أن رأى القاضي تنافي قول الفتى وفعله، وتحلّيه بما ليس من أهله، نظر إليه بعين غضبى، وقال: أتميميّا مرة وقيسيّا أخرى! أفّ لمن ينقض ما يقول، ويتلوّن كما تتلوّن الغول. فقال الغلام: والّذي جعلك مفتاحا للحقّ، وفتّاحا


(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٧، والترمذي في تفسير سورة ١٨، باب ٣، وأحمد في المسند ٢/ ٣١٢، ٣١٨.
(٢) البيت في ديوان أبي تمام ص ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>