واستحق ذلك الأمور: منها أنه كان موصوفا بالحلم مشهورا بالجود، معروفا بالتقدم والشجاعة، محظوظا في العشيرة، ثم أنشد الأبيات المتقدّمة.
وكان صخر أجمل رجل في العرب، وكان سبب قتله أنه جمع جمعا، أغار على بني أسد بن خزيمة، فنذروا به والتقوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فارفضّ أصحاب صخر عنه، فطعنه ربيعة بن ثور الأسديّ، فأدخل جوفه حلقا من الدّرع، فاستقلّ منها وسار إلى أهله فاندمل عليه الجرح، ونتأ منه مثل اليد، فأضناه ذلك حولا، فسمع سائلا يقول لامرأته: كيف صخر اليوم؟ فقالت: لا حيّ فيرجى، ولا ميت فينعى، ولقد لقينا منه الأمرّين- وامرأته بديلة الأسدية وكان سباها من بني أسد، واتخذها لنفسه- فلما سمع قولها علم أنها برمت منه، ورأى تحزّن أمه عليه، فقال: [الطويل]
أرى أمّ صخر لا تجفّ دموعها ... وملّت سليمى مضجعي ومكاني (١)
وما كنت أخشى أن أكون جنازة ... عليك، ومن يغترّ بالحدثان
أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنّزوان
لعمري قد نبّهت من كان نائما ... وأسمعت من كانت له أذنان
فأي امرئ ساوى بأمّ حليلة ... فلا عاش إلا في شقى وهوان
ثم عزم على قطع ذلك الموضع، فلما قطعه يئس من نفسه، فقال: [الطويل]
أجارتنا إنّ الخطوب قريب ... على الناس، كلّ المخطئين تصيب
أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب
فلما مات دفن في أرض بني سليم بقرب عسيب.
وحضرت الخنساء القادسية مع بنيها وهم أربعة رجال، فقالت لهم من أوّل الليل:
يا بني إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو؛ إنكم لبنو رجل واحد، كما أنّكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولافضحت خالكم، ولا هجّنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وقد تعملون ما أعدّ الله تعالى للمؤمنين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أنّ الدار الآخرة خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:
٢٠٠]، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا لقتال عدوّكم مستبصرين، وبالله على
(١) البيت الثاني لصخر بن عمرو في الأغاني ١٥/ ٧٦، وبلا نسبة في لسان العرب (جنز)، وتهذيب اللغة ١٠/ ٦٢٢، وكتاب العين ٦/ ٧٠، ومقاييس اللغة ١/ ٤٨٥، والبيت الثالث لصخر أيضا في الأصمعيات ص ١٤٦، وخزانة الأدب ١/ ٤٣٨، والشعر والشعراء ١/ ٣٥٢، ولسان العرب (نزا)، وبلا نسبة في مغني اللبيب ٢/ ٥١٦، والمنصف ٣/ ٦٠، والبيت الرابع بلا نسبة في كتاب العين ٤/ ٦٠.