رجعنا إلى أخبار أبي دلامة.
يحكى أنّ المهديّ أو المنصور- أنشده ما أعجبه، فكساه طيلسانا وأمر له بمال، وعاهده ألّا يشرب الخمر، فحلف له وخرج إلى بني داود بن عليّ فضحكوا به. وقصّ عليهم خبره فسقوه حتى أسكروه وأخرجوه، فأعلم المهديّ الخبر، فأرسل فيه، وأمر الرّسول بسجنه وتخريق ساجه، وألّا يمكن من قرطاس ولا مداد، ففعل به الرسول ذلك، فانتبه في جوف الليل فنادى جاريته فقال له السجان: طعنة في كبدك فقال له: ويلك! من أنت، وأين أنا؟ فقال له: سل نفسك أين كنت عشاء أمس؟ فاستحلفه من أنت؟ فقال: أنا السّجان، بعث بك أمير المؤمنين وأنت سكران، فأمرني أن أحبسك مع الدجاج، فقال:
أحبّ أن تسرج لي سراجا، وتأتيني بداوة وقرطاس، ولك عندي صلة، فقال له أما السّراج فنعم، وأما القرطاس والدواة، فقد أمرت ألّا أمكّنك منهما. فلما أتاه بالسّراج وجد ساجه مخرّقا ملطخا بإزبال الدجاج، ورأى نفسه جالسا بينها، فقال له: ادع لي ابني دلامة، فدعاه، فأمره أن يجيد حلاقة رأسه، وأن يأتيه بفحمة، ففعل، فكتب على رأس ابنه: [الوافر]
أمن صهباء صافية المزاج ... كأنّ شعاعها لهب السّراج
تهشّ لها القلوب وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزّجاج
أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمّال الخراج
ولو معهم حبست لكان خير ... ولكنّي حبست مع الدّجاج
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... ففيم حبستني وخرقت ساجي
على أني وإن لاقيت شرّا ... لخيرك بعد ذاك الشرّ راجي
ثم قال: يا أمير المؤمنين، هذه أمانة، فإذا قرأتها فمزّق الرقعة. ثم أمر دلامة أن يدخل على أمير المؤمنين ويقرئه ما في رأسه، فأتى الباب وصاح: دعوة المظلوم، فعلم أمير المؤمنين بمكانه فأمر بإدخاله، فكشف رأسه، وقال: إن ظلامتي مكتوبة في رأسي، فأدني منه حتى قرأها فاشتدّ ضحكه، وعجب من حيلته وأمر بإخراجه، وقال: ما كان أحوج هذه الرقعة أن تمزّق، ثم وصله بصلة، ونهاه أن يوجد سكران.
وخرج المهديّ يتصيّد ومعه عليّ بن سليمان، فسنح له قطيع من الظّباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، فرمى المهديّ سهما فصرع ظبيا، ورمى عليّ بن سليمان سهما فصرع كلبا، فقال أبو دلامة: [الرمل]
قد رمى المهديّ ظبيا ... شقّ بالسّهم فؤاده
وعليّ بن سليما ... ن رمى كلبا فصاده
فهنيئا لهما كلّ امر ... ئ يأكل زاده