فقدتك بينهم فبكيت شوقا ... وفقد الإلف يا أملي شديد
وما استبطأت غيرك فاعلميه ... وحولي من ذوي رحمي عديد
ولو كنت المريض لكنت أسعى ... إليك وما يهدّدني الوعيد
ثم شهق شهقة، وخفت خفته، فداخلني أمر ما داخلني مثله قطّ، والعجوز تبكي، فلما رأت ما حلّ بي قالت: يا فتى، لا ترع؛ مات والله ولدي بأجله، واستراح من تباريحه وغصصه، فهل لك في استكمال الصّنيعة؟ قلت: قولي.
ما أحببت، قالت: تأتي البيوت فتنعاه إليهم، ليعاونوني على رمسه، فإني وحيدة، فركبت فرسي، وأتيت البيوت، رافعا صوتي بنعيه، فلم ألبث أن خرجت لي جارية، أجمل ما رأيت من النساء، ناشرة شعرها، حديثة عهد بعرس، تقول: بفيك الحجر المصمت! من تنعى؟ قلت: أنعى فلانا، قالت: أو قد مات! قلت: إي والله قد مات.
قالت: فهل سمعت له قولا؟ قلت: اللهمّ شعرا، قالت: وما هو؟ فأنشدتها أبياته، فاستعبرت وأنشأت تقول: [الوافر]
عداني أن أزورك يا مرادي ... معاشر كلّهم واش حسود
أشاعوا ما علمت من الدّواهي ... وعابونا وما فيهم رشيد
فأمّا إذ ثويت اليوم لحدا ... وكلّ الناس دورهم لحود
فلا طابت لي الدنيا فواقا ... ولا لهم ولا أثرى العديد
ثم شهقت شهقة، فوقعت مغشيّا عليها، وخرجت النساء من البيوت فاضطربت ساعة، وماتت.
فو الله ما برحت حتى دفنتهما جميعا.
هشام بن عروة: أذن معاوية للنّاس يوما فكان فيمن دخل عليه فتى من بني عذرة، فقام بين السّماطين وأنشأ يقول: [الطويل]
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مسلكي ... وأنكرت ممّا قد أصبت به عقلي
ففرّج كلاك الله عنّي فإنّني ... لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ لي هداك الله حقّي من الذي ... رماني بسهم كان أهونه قتلي
وكنت أرجّي عدله إذا أتيته ... فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
فطلقتها من جهد ما قد أصابني ... فهل ذا أمير المؤمنين من العدل!
فقال له معاوية: ادن بارك الله عليك، ما خطبك؟ قال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين، إني رجل من بني عذرة، . تزوّجت ابنة عمّ لي. وكانت لي صرمة (١) من الإبل
(١) الصرمة: الجماعة من الإبل ما بين العشرين والثلاثين.