لم نتعرض في شرح هذه المقامة، لما ثبت في كتاب المقامات من شرح منشيها، بل نعقب ما أهمله، وكان الأولى إثبات ما شرح بنصه؛ إذ هو وفق لغرضه.
قال الشيخ الرئيس أبو محمد القاسم بن عليّ رحمه الله تعالى:
قد فسّرت سرّ كل لغز تحته، ولم أبعد على من يقرؤه كشفه، وقد بقيت ألفاظ اشتملت عليها هذه المقامة ربما التبس تفسيرها على بعض من تقع إليه فأحببت إيضاحها له ليكفى حيرة الشبهة وكلفة الفكرة، ووصمة البحث والمسألة، وبالله تعالى الاستعانة والقوة.
قوله: «عشوت إلى نار» يعني تنوّرتها فقصدتها فإن لم تقصدها قلت: عشوت عنها، كقوله تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦]، أي يعرض.
وقوله: «وأنا أصرد من عين الحرباء والعنز الحرباء»، هذان مثلان يضربان لمن يبلغ منه البرد، وذلك لأنّ الحرباء تدور أبدا مع الشمس وتستقبلها بعينها، ولذلك شبّه ابن الرومي الرّقيب بالحرباء في قوله: [الكامل]
ما بالها قد حسّنت ورقيبها ... أبدا قبيح، قبّح الرّقباء
ما ذاك إلّا أنّها شمس الضّحا ... أبدا يكون رقيبها الحرباء
والعنز الجرباء لا تدفأ في الشتاء لقلة شعرها، وذكر بعضهم أن العنز الجرباء تصحيف المثل الأول.
وقوله: «من نحر وار» يعني الجمل المكتنز شحما، الكثير مخّا.
وقوله: «عشاره تخور وأعشاره تفور» العشار: النوق الحوامل والأعشار: البرمة العظيمة. كأنها شعبت لعظمها، يقال: برمة أعشار وجفنة أكسار وثوب أسمال وبرد أخلاق وحبل أرمام، ووصف الجماعة منها كوصف الواحد.
وقوله: «فاكهة الشتاء» كنى بها عن النار، ومنه قول بعض المحدثين: [الكامل]
النّار فاكهة الشتاء فمن يرد ... أكل الفواكه شاتيا فليصطل
إنّ الفواكه في الشتاء شهية ... والنّار للمقرور أفضل مأكل
وقوله: «موائد كالهالات» يعني دارات القمر، ودارة الشمس تسمّى الطّفاوة.
وقوله: «مشوش الغمر» يعني المنديل، يقال: مشّ يده بالمنديل، أي مسحها، ومنه قول امرئ القيس: [الطويل]
نمشّ بأعراف الجياد أكفّنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهّب (١)
(١) البيت في ديوان امرئ القيس ص ٥٤.