للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأنّ أخاك هو الّذي عذلك، لا الّذي عذرك، وصديقك من صدّقك، لا من صدّقك، فقال له الحاضرون: أيّها الخلّ الودود، والخدن المودود، ما سرّ كلامك الملغز، وما شرح خطابك الموجز؟ وما الّذي نبغيه منّا لينجز، فو الّذي حبانا بمحبّتك، وجعلنا من صفوة أحبّتك، ما نألوك نصحا، ولا ندّخر عنك نضحا، فقال: جزيتم خيرا، ووقيتم ضيرا، فإنّكم ممّن لا يشقى بهم جليس، ولا يصدر عنهم تلبيس، ولا يخيّب فيهم مظنون، ولا يطوى دونهم مكنون، وسأبثّكم ما حاك في صدري، وأستفتيكم فيما عيل فيه صبري.

***

عذلك: لامك. صدقك: قال الصدق، كأنه أراد أن الصديق إنما سمّي صديقا لصدقه لصاحبه، يريد أنّ أخاك هو الذي يلومك ويقبّح لك سوء فعلك ومن حسّن عذرك في ذلك، فليس بصديق ولا أخ، مثل ما حكى الأصمعيّ، قال: سمعت أعرابيا يقول لأخ له: اعلم أنّ الناصح لك المشفق عليك، من طالع لك ما وراء العواقب برويّته ونظره، ومثّل لك الأحوال المخوفة، وخلط لك الوعر بالسّهل من كلامه ومشورته، ليكون خوفك كفء رجائك، وشكرك إزاء النعمة عليك، وأنّ الغاشّ لهواك والحاطب عليك من مدّ لك في الاغترار، ووطّأ لك مهاد الظلم، تابعا لمرضاتك منقادا لهواك، وقال الشاعر فيمن لا يقبل النصح: [المتقارب]

إذا ما هديت امرأ مخطئا ... أضل السّبيل إلى قصده

فلم تلفه سامعا قابلا ... فحس له المشي في ضدّه

الخلّ: الخليل. الودود: الصاحب الكثير الودّ: الخدن المودود: الصديق لمحبوب. الملغز: المبهم الخفيّ الموجز: المختصر. تبغيه: تطلبه لينجز: ليفعل في الحين. حبانا: اختصّنا صفوة: خيار. نألوك نصحا: نقصّر في نصيحتك ندخر: نرفع ونخبأ نضحا: عطية ندفعها لك، مأخوذ من النّضح وهو الشرب القليل دون الريّ.

والنّضح أيضا: الرشّ بالماء. ووقيتم ضيرا: الضّر يصدر: يرجع. تلبيس: التباس وتخليط. لا يخيّب فيهم مظنون، أي ما ظن فيهم من النّصح والمعاونة موجودة فيهم غير مفقودة. مكنون: مستور يطوى: يحجب ويستتر. أبثّكم: أنشر لكم وأظهر. حاك في صدري: أثّر فيه واحتكّ به. عيل: غلب وعالني الشيء عولا: غلبني وثقل عليّ.

***

اعلموا أنّي كنت عند صلود الزّند، وصدود الجدّ، أخلصت مع الله نيّة العقد، وأعطيته صفقة العهد، على ألّا أسبأ مداما، ولا أعاقر ندامى. ولا أحتسي

<<  <  ج: ص:  >  >>