كتفا، أو يخصف نعلا، فتهاونوا بحديثها، حتى صبّحهم حسان فاجتاحهم فأخذت الزّرقاء، فشق عيناها فإذا فيها عروق سود من الإثمد، وكانت أول من اكتحل به، وهرب الأسود، فنزل بطيّئ، فنسله فيهم، وتسمى زرقاء اليمامة، واسم البلد جوّ، فلما صلبت على بابها، سمّيت اليمامة، وقيل اليمامة اسم البلد، واسم الزرقاء عنز، وقيل إن حسّانا لم يصلبها، ولكن حملها في السّبي، وقالت عند ما قرّب لها البعير لتركبه، ولم تكن اعتادت ركوبه:[الخفيف]
شرّ يوميها وأغواه لها ... ركبت عنز بحدج جملا
وقيل إن عنزا هي أخت الزرقاء، وقال الشاعر:[البسيط]
ما نظرت ذات أجفان كنظرتها ... حقا كما صدع الدّين الّذي صدعا
قالت أرى رجلا في كفّه كتف ... أو يخصف النّعل لهفي أية صنعا
فكذّبوها فوافتها على عجل ... أقيال حمير تزجي الموت والشّرعا
فاستنزلوا أهل جوّ من معاقلهم ... وهدّموا شامخ البنيان فاتّضعا
***
فسألتهم إيضاح ما قالوا، وأن يكيلوا لي بما اكتالوا، فحكوا أنّهم ألمّوا بسروح، بعد أن فارقها العلوج، فرأوا أبا زيدها المعروف، قد لبس الصّوف، وأمّ الصّفوف وصار بها الزّاهد الموصوف، فقلت: أتعنون ذا المقامات. فقالوا: إنّه الآن ذو الكرامات، فحفزني إليه النّزاع، ورأيتها فرصة لا تضاع، فارتحلت رحلة المعدّ، وسرت نحوه سير المجدّ، حتى حللت بمسجده، وقرارة متعبّده، فإذا هو قد نبذ صحبة أصحابه، وانتصب في محرابه، وهو ذو عباءة مخلولة، وشملة موصولة؛ فهبته مهابة من ولج على الأسود، وألفيته ممّن سيماهم في وجوههم من أثر السّجود. ولما فرغ من سبحته، حيّاني بمسبّحته، من غير أن نغم بحديث، ولا استخبر عن قديم ولا حديث، ثمّ أقبل على أوراده، وتركني أعجب من اجتهاده، وأغبط من يهدي الله من عباده، ولم يزل في قنوت وخشوع، وسجود وركوع، وإخبات وخضوع، إلى أن أكمل إقامة الخمس، وصار اليوم أمس، فحينئذ انكفأ بي إلى بيته، وأسهمني في قرصه وزيته، ثم نهض إلى مصلّاه، وتخلّى بمناجاة مولاه؛ حتى إذا التمع الفجر، وحقّ للمجتهد الأجر، عقّب تهجّده بالتسبيح، ثم اضطجع ضجعة المستريح، وجعل يرجّع بصوت فصيح.