للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فقال الغلام: الاصطلاء بالبليّة، ولا الإيلاء بهذه الأليّة، والانقياد للقود؛ ولا الحلف بما لم يحلف به أحد. وأبى الشيخ إلّا تجريعه اليمين الّتي اخترعها، وأمقر له جرعها. ولم يزل التّلاحي بينها يستعر، ومحجّة التّراضي تعر، والغلام في ضمن تأبّيه، يخلب قلب الوالي بتلوّيه، ويطمعه في أن يلبّيه، إلى أن ران هواه على قلبه، وألبّ بلبّه، فسوّل له الوجد الّذي تيّمه، والطّمع الّذي توهّمه، أن يخلّص الغلام ويستخلصه، وأن ينقذه من حبالة الشّيخ ثم يقتنصه.

***

قوله: «الاصطلاء»، أي الاتصال والتلبّس. والبلية، أراد دعوة الباطل التي ادّعى عليه الشيخ. والإيلاء: الحلف: والأليّة: اليمين. والقود: قتل النفس بالنفس، فيقول:

الصبر على الضرب أو القتل أهون من هذه اليمين التي لم يحلف بها أحد اخترعها:

استنبطها. أمقر: أمرّ، من المقر؛ وهو الصير.

وهذه اليمين المخترعة، حكى الأصمعيّ شبهها، فقال: اختصم أعرابيّان عند بعض الولاة في دين، فجعل المدّعى عليه يحلف بالطلاق والعتاق، فقال المدّعي: دعني من هذه الأيمان، واحلف بما أقول لك، فقال: ما قولك؟ قال: قل: لا ترك الله لك خفّا يتبع خفّا، ولا ظلفا يتبع ظلفا، وحتّك من أهلك وولدك، كما يحاتّ الورق من الشجر؛ إن كان بقي لي هذا الحق قبلك. فأعطاه حقّه ولم يحلف له.

وحكى المسعوديّ أنّ الفضل بن الربيع قال: صار إليّ عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فقال: إنّ موسى بن عبد الله بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب قد أرادني على بيعته، فأخبرت الرشيد بذلك، فجمع بينهما، فقال الزبيريّ لموسى: سعيتم علينا، وأردتم نقض بيعتنا ودولتنا، فقال له موسى: ومن أنتم! فغلب الرّشيد الضحك حتى رفع رأسه إلى السقف لئلا يظهر منه الضحك، ثم قال موسى: يا أمير المؤمنين، هذا المشنّع عليّ، خرج مع أخي محمد على جدّك المنصور، وهو القائل [من أبيات]:

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتنا ... إنّ الخلافة فيكم يا بني الحسن

وليست سعايته حبّا لك، ولا مراعاة لدولتك؛ ولكن بغضا لنا جميعا أهل البيت، وأنا أستحلفه بيمين، فإن حلف بها أنّي قلت ذلك، فدمي حلال لأمير المؤمنين. فقال له الرشيد: احلف له يا عبد الله، فامتنع، فقال له الفضل: لم تمتنع وقد زعمت أنه قال ما ذكرته؟ قال: فإني أحلف له، قال موسى: قل: تقلّدت الحول والقوّة دون حول الله وقوّته إلى حولي وقوّتي، إن لم يكن ما قلته حقا. فحلف له، فقال موسى: الله أكبر! حدثني أبي عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما حلف أحد بهذه اليمين وهو

<<  <  ج: ص:  >  >>