رنت الجماعة إلى تحفّزه، ورأت تأهّبه لمزايلة مركزه، أدخل كلّ منهم يده في جيبه، فأفعم له سجلا من سيبه، وقال: اصرف هذا في نفقتك، أو تفرّقه على رفقتك، فقبله منهم مغضيا، وانثنى عنهم مثنيا، وجعل يودّع من يشيّعه، ليخفي عليه مهيعه، ويسرّب من يتبعه، لكي يجهل مربعه.
***
قوله:«ثم إنه لبّد عجاجته»، أي سكّن غبرته المرتفعة حتى لصقت بالأرض غيّض:
جفف. المجاجة: ما يلقي من فيه، وقد مجّ الرجل ريقه إذا سال من حمق أو كبر، وأراد بلبد عجاجته، قطع كلامه الذي كان قد استرسل، وأخذه من قول سليمان بن عبد الملك، وقد تكلّم وفد بين يديه، فلم يصنعوا شيئا وتكلم بعدهم رجل قبيح المنظر فأبلغ، فقال سليمان: كأن كلامه بعد كلامهم سحابة لبّدت عجاجا.
وأراد ب «غيّض مجاجته» ما كان يسيل من عينيه وأنفه عند البكاء. واعتضدها:
جعلها تحت عضده. والشكوة: ركوة الماء تصنع من جلد الثور أو الخروف، وتأبطها:
جعلها تحت إبطه. هراوته: عصاه. رنت: نظرت. تحفزه: تهيؤه وعجلته للانصراف، وتحفّز وانحفز، إذا كان جالسا على عقبيه متهيّئا للقيام، تأهّبه: استعداده، مزايله:
مفارقه. مركزه: موضعه الذي قام به. أفعم ملأ، وفعمت الشيء فعما: ملأته. سجلا:
دلوا. سيبه: عطاؤه، معناه وهب له نصيبا من عطائه. رفقتك: أصحابك. مغضيا:
مستحييا، وأصل «أغضى» كفّ بصره وضم جفنيه، . انثنى: رجع وانعطف عن طريقه، مهيعه: طريقه البيّن. يسرّب: يفرق. فكأنه «تفعّل» من السّرب وهو الطريق، كأنه يردّهم عن تشييعه في طريق مختلفة، أو يكون من لفظ السّرب، وهو الجحر. فكأنه يغيبهم عنه حيث يقصد تعمية طريقه عليهم، أو يكون من لفظ السارب وهو الذاهب في الأرض، وقد سرب سروبا، فكأنه يذهبهم في كلّ ناحية ليجهل مكانه مربعه: منزله في الربيع خاصة. والمربع: المنزل في كل وقت؛ من ربعت بالمكان، أقمت به.
***
قال الحارث بن همّام: فاتّبعته مواريا عنه عيانيّ، وقفوت إثره من حيث لا يراني؛ حتى انتهى إلى مغارة، فانساب فيها على غرارة، فأمهلتهريثما خلع نعليه، وغسل رجليه، ثمّ هجمت عليه، فوجدته محاذيا لتلميذ، على خبز سميذ، وجدي حنيذ، وقبالتهما خابية نبيذ، فقلت له: يا هذا، أيكون ذاك خبرك وهذا مخبرك!
***
مواريا: ساترا. عياني: شخصي، أي تبعته مستخفيا بحيث لا يراني، قفوته: اتبعته من جهة قفاه، انساب: دخل، وأصل الانسياب، جرى الحية على وجه الأرض، أو