والباب لا يحصى كثرة فلنقتصر على هذه اللمعة.
وقوله: «واستوقفني بإيماء كفه»: أي أمرني بالوقوف، والإيماء: الإشارة.
***
فلزمت موقفي، وأخّرت منصرفي، فقال الوالي: ما مرامك، ولأيّ سبب مقامك؟ فابتدره الشيخ وقال: إنّه أنيسي، وصاحب ملبوسي. فتسمّح عند هذا القول بتأنيسي، ورخّص في جلوسي، ثمّ أفاض عليهما خلعتين، ووصلهما بنصاب من العين، واستعهدهما أن يتعاشرا بالمعروف، إلى إظلال اليوم المخوف. فنهضا من ناديه، مشيدين بشكر أياديه، وتبعتهما لأعرف مثواهما، وأتزوّد من فحواهما.
فلمّا أجزنا حمى الوالي، وأفضينا إلى الفضاء الخالي، أدركني أحد جلاوزته، مهيبا بي إلى حوزته، فقلت لأبي زيد: ما أظنّه استحضرني إلّا ليستخبرني، فماذا أقول؟
وفي أيّ واد معه أجول؟ فقال: بيّن له غباوة قلبه، وتلعابي بلبّه؛ ليعلم أنّ ريحه لاقت إعصارا، وجدوله صادف تيارا، فقلت: أخاف أن يتّقد غضبه فيلفحك لهبه، أو يستشري طيشه، فيسري إليك بطشه، فقال: إني أرحل الآن إلى الرّها، وأنى يلتقي سهيل والسها! .
***
مرامك: مرادك، مقامك: تلبّثك ووقوفك. أنيسي: صاحبي الذي أتأنس به.
فتسمّح بتأنيسي، أي أولاني منه المؤانسة، رخّص: ليّن وسهل. أفاض: صبّ. خلعتين:
كسوتين. والنصاب: عشرون دينارا، والعين: الذهب. استعهدهما: استحلفهما.
يتعاشرا: يتصاحبا. إظلال: قرب ودنو. اليوم المخوف: يوم موته. ناديه: مجلسه.
مشيدين: رافعين بشكره أصواتهما. أياديه: نعمه. مثواهما: مسكنهما. فحواهما: معنى كلامهما، ويروى: «نجواهما» أي سرّهما. أجزنا: خلّفنا، أفضينا: وصلنا. الفضاء:
المتّسع من الأرض. جلاوزته: شرطه، واحدهم جلواز والجلاز عقب ملويّ على القوس، وجلزت القوس والسوط والسكين: عصبتهما بالعقب، فسمّوا جلاوزة، لأنهم يعصبون بالسياط الناس عند الضرب، أو لأن السياط لا تفارق أيديهم، والجلز: السّدّ، وهم يربطون الناس ويشدّونهم، مهيبا: داعيا. حوزته موضعه الذي يحميه ويحوزه، استحضرني: طلب حضوري، ويستخبرني: يسألني خبره. أجول: أتصرف وأمشي، أي علّمني في أي عرض من الحديث آخذ معه، غباوة: جهل، ورجل غبيّ غير فطن. تلعابي بلبّه، أي لعبي بعقله، والتّلعاب بنية للمبالغة. يستشري: ينتشر. طيشه: خفته من الغضب. يسري: يسير. بطشه: إيقاعه وتناوله بما يكره.
الرّها: بلد من كورة الجزيرة تجاورها الرّقة وحرّان، سميت باسم صاحبها الرها بن