قال: وفي أخبار النحويين أيضا أنّ المازنيّ سئل بحضرة المتوكل عن قوله تعالى:
وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: ٢٨] فقيل له: كيف حذفت الهاء من «بغيا» وفعيل بمعنى فاعل، تلحقه الهاء، نحو فتيّ وفتية وغنيّ وغنيّ، فقال: إن «بغيا» ليست «فعيلا» إنما هو فعول بمعنى فاعل، لأن الأصل «بغوى» ومن أصول التصريف أنه متى اجتمعت الياء والواو في كلمة وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء، كشويته شيّا، ويوم وأيام، وهذا أصل مطرد لم يشذّ منه إلا القليل، فعلى هذه القضية تحذف الهاء وجوبا لأنها بمعنى «باغية»، كما تحذف من «صبور» لأنها بمعنى «صابرة».
قال المازنيّ: حضر يعقوب عند الواثق وقد حاز منزلة العلماء، فقال لي الواثق:
سله عن مسألة، فقلت له: ما وزن «نكتل»؟ فقال:«نفعل»، فقلت له: غلطت، ثم قال لي: فسّره. فقلت: أصله «نكتيل»، فقلبت الياء ألفا للفتحة قبلها وسكنت اللام للجزم، لأنه جواب أمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فقال الواثق: هذا الجواب لا جوابك يا يعقوب، فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا وبيني وبينك المودة؟
فقلت: والله ما ظننت أنه يعزب عنك مثل هذا! فانظر كيف لم يثبت يعقوب الأوزان على ثبوت قدمه في العلم.
لقي هارون الرشيد الكسائيّ في بعض طرقه فوقف عليه، وتحفّى بسؤاله عن حاله، فقال: أنا بخير يا أمير المؤمنين، ولو لم أجد من ثمرة الأدب إلا ما وهب لله تعالى لي من وقوف أمير المؤمنين عليّ لكان ذلك كافيا محتسبا.
ودخل أبو يوسف رحمه الله تعالى وهما في مذاكرة وممازحة، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ هذا الكوفيّ قد غلب عليك، فقال: يا أبا يوسف إنه ليأتيني بأشياء يشتمل عليها قلبي، وتأخذ بمجامعه، فقال الكسائيّ: يا أبا يوسف، هل لك في مسألة؟ فقال:
في نحو أو في فقه؟ فقال: بل في فقه، فضحك هارون حتى فحص برجليه، وقال: تلقي على أبي يوسف الفقه؟ فقلت: نعم، ثم قال: يا أبا يوسف، فما تقول في رجل قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار؟ قال: إذا دخلت الدار طلقت، قال: أخطأت يا أبا يوسف! فضحك الرشيد ثم قال: فكيف الصواب؟ قال: إذا قال: «أن» وجب الفعل، دخلت بعد أو لم تدخل، وإذا قال «إن» بالكسر لم يجب ولم يقع الطلاق.
دخل الفراء على الرشيد فتكلم فلحن مرات، فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين، إنه قد لحن، فقال الرشيد للفراء: أتلحن يا يحيى؟ فقال: إنّ طبع أهل البدو الإعراب وطباع أهل الحضر اللحن، فإذا حفظت أو كتبت لم ألحن، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت، فاستحسن الرشيد كلامه وعلم أنه الحق.