يا موري النار قد أعيت قوادحه ... أقبس إذا شئت من قلبي بمقياس
***
فشمخ بأنفه صلفا، ونأى بجانبه أنفا، وأنشد: [البسيط]
نهاني الشّيب عمّا فيه أفراحي ... فكيف أجمع بين الرّاح والرّاح
وهل يجوز اصطباحي من معتّقة ... وقد أنار مشيب الرّأس إصباحي
آليت لا خامرتني الخمر ما علقت ... روحي بجسمي وألفاظي بإفصاح
ولا اكتست لي بكاسات السّلاف يد ... ولا أجلت قداحي بين أقداح
ولا صرفت إلى صرف مشعشعة ... همّي ولا رحت مرتاحا إلى راح
ولا نظمت على مشمولة أبدا ... شملي ولا اخترت ندمانا سوى الصّاحي
محا المشيب مراحي حين خطّ على ... رأسي، فأبغض به من كاتب ماحي
ولاح يلحى على جرّي العنان إلى ... ملهى فسحقا له من لائح لاحي
ولو لهوت وفودي شائب لخبا ... بين المصابيح من غسّان مصباحي
قوم سجاياهم توقير ضيفهم ... والشيب ضيف له التوقير يا صاح
ثمّ إنه انساب انسباب الأيم، وأجفل إجفال الغيم. فعلمت أنّه سراج سروج، وبدر الأدب الذي يجتاب البروج. وكان قصارانا التحرّق لبعده، والتفرّق من بعده.
***
قوله: «شمخ»، أي تكبر ورفع أنفه. صلفا: قحة وصلابة وجه، وفي فلان صلف، أي قلة انطباع وموافقة إذا أردت منه شيئا تهاون بك، والتصليفان: ناحيتا العنق، كأنه إذا كلّمته في شيء أعرض عنك، ولوى عنك صليفه، والصّلف مجاوزة قدر الظّرف، وفي الشهاب: آفة الظرف الصّلف. ناء: نهض، ويروى: نأى، تباعد. أنفا: غضبا، وأنفت من كذا تنزهت عنه وترفعت، وأصله من رفع الأنف، فكأنه رفع أنفه تيها عليهم وتكبرا عن منادمتهم لاحتقارهم له أولا قبل اختباره، ثم تبدّلهم آخر بعد اعتباره؛ واعتذر لذلك بالشيب.
ونذكر هنا فصلا أدبيّا يأتي على جميع أغراض هذه الأبيات:
قال بعض الظرفاء يذم الخمر: الشراب: أول الخراب، ومفتاح كلّ باب، يمحق الأموال، ويذهب الجمال، ويهدم المروءة، ويوهن القوّة، ويضعالشريف، ويذل العزيز، ويبيح الحرائر، ويفلس التجار، ويهتك الأستار، ويورث الشّنار.
وقال بعضهم لابنه: كثرة الشراب تكسد القلب، وتقلّ الكسب، وتغيّر اللّب، واعلم أن الظمأ الذابح، خير من الريّ الفاضح.