للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال المزنيّ: دخلت عليه غداة وفاته فقلت له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال:

أصبحت من الدنيا راحلا، ولإخواني مفارقا، ولكأس المنية شاربا، ولا أدري إلى الجنة تصير نفسي فأهنّئها أم إلى النار فأعزّيها! ثم أنشأ يقول: [الطويل]

ولمّا قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرّجا منّي لعفوك سلّما

تعاظمني ذنبي فلمّا قرنته ... بعفوك ربّي كان عفوك أعظما

وكانت وفاته في رجب ليلة الجمعة سنة أربع ومائتين، ودفن في صبيحتها وهو ابن أربع وخمسين سنة، وصلّى عليه السّري بن الحكم أمير مصر، ودفن بها نحو قبور الشهداء في مقبرة بني عبد الحكم وعند رأسه عمود من الحجر كبير، وفيه مكتوب: «هذا قبر محمد بن إدريس الشافعيّ أمين الله».

وقال الشافعيّ: أظلم الظالمين لنفسه من تواضع لمن لا يكرمه، ورغب في مودة من لا ينفعه، وقبل مدح من لا يعرفه.

وقال: من غلبت عليه شدة الشهوة بحبّ الدنيا لزمته العبودية لأهلها، ومن رضي بالقنع زال عنه الخضوع.

وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعيّ يقول: [الطويل]

وأنزلني طول النوى دار غربة ... يجاورني من ليس مثلي يشاكله

أخامقة حتى يقال سجيّة ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله

قال: وسمعته ينشد: [الطويل]

صن النفس واحملها على ما يزينها ... تعش سالما والقول فيك جميل

ولا تولينّ الناس إلا تجمّلا ... نبا بك دهر أو جفاك خليل

وإن ضاق رزق اليوم فاصبر إلى غد ... عسى نكبات الدهر عنك تزول

ولا خير في ودّ امرئ متلوّم ... إذا الريح مالت مال حيث تميل

وما أكثر الإخوان حين تعدّهم ... ولكنّهم في النائبات قليل!

قال: وسمع رجلا يشفه على رجل من أهل العلم، فقال لأصحابه: نزّهوا أسماعكم عن استماع الخنى، كما تنزّهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإنّ السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه، فيحرص على أن يفرغه في أوعيتكم.

نظم بعضه هذا المعنى، فقال: [المتقارب]

فسمعك صن عن سماع الخنى ... كصون اللّسان عن النّطق به

فإنك عند استماع الخنى ... شريك لقائله فانتبه

وكان الحسن البصريّ رحمه الله، إذا خطب الحجاج، وذكر السّلف، يتكلّم تشاغلا

<<  <  ج: ص:  >  >>