قال: فتمثّلت مقاله في مرآة المداعب، ومعرض الملاعب، فتصلّب تصلّب المحقّ، وتبرّأ من طينة الرّقّ. فجلنا في مخاصمة، واتّصلت بملاكمة، وأفضت إلي محاكمة: فلمّا أوضحنا للقاضي الصّورة، وتلونا عليه السّورة، قال: ألا إنّ من أنذر، فقد أعذر، ومن حذّر كمن بشّر. ومن بصّر فما قصّر؛ وإنّ فيما شرحتماه لدليلا على أنّ هذا الغلام قد نبّهك فما ارعويت، ونصح لك فما وعيت. فاستر داء بلهك واكتمه، ولم نفسك ولا تلمه، وحذار من اعتلاقه، والطّمع في استرقاقه، فإنّه حرّ الأديم، غير معرّض للتّقويم.
وقد كان أبوه أحضره أمس، قبيل أفول الشّمس، واعترف بأنّه فرعه الّذي أنشأه، وألّا وارث سواه، فقلت للقاضي: أو تعرف أباه، أخزاه الله! فقال: وهل يجهل أبو زيد الّذي جرحه جبار، وعند كلّ قاض له أخبار وإخبار، فتحرقت حينئذ وحولقت، وأفقت ولكن حين فات الوقت، وأيقنت أنّ لثامه كان شرك مكيدته، وبيت قصيدته. فنكّس طرفي ما لقيت، وآليت ألّا أعامل ملثّما ما بقيت.
***
تمثّلت: تصوّرت. المداعب: الممازح. والمعرض بفتح الميم: الموضع الذي تعرض فيه الأشياء، والمعرض الثوب تعرض فيه الجارية. تصلّب: تقوّى، وهو «تفعّل» من الصّلابة وهي الشدة. والأرض الصّلبة: القوية. ولا أعلم أحدا خالف في هذه الرواية إلا ابن ظفر فإنه رواه:«تصلّت» بالتاء بنقطتين، وفسره بتجرّد وجدّ، وكل جادّ مجاهد مسرع في أمره: فهو متصلّت فيه، فذكروا أنه تصحف عليه اللفظ، فشرحه على تصحيفه. المحقّ: صاحب الحق. الرّق: العبوديّة: وذكر الطينة لأنها أصل الخلق. وتبرّأ منها، تباعد. جلنا: تصرّفنا. ملاكمة: مدافعة ومضاربة، واللّكم: الضرب بجمع الكفّ. أفضت: اتّصلت. أوضحنا: بيّنّا. الصّورة: القصة.
تلونا: قرأنا وذكرناها له. أنذر: أعلم. أعذر: أتى بعذر، ويقال: قد أعذر من أنذر، أي قد بلغ أقصى العذر من أنذرك، وعذّر الرجل فهو معذّر، إذا اعتذر ولم يأت بعذر. ومنه قوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ [التوبة: ٩٠] ارعويت:
رجعت عن جهلك وانكففت. بلهك، غفلتك وجهلك. حذار، أي احذر أن تتعلّق به. استرقاقه: تملّكه وتعبّده، ومنه قولهم: سوق الرقيق، ومنه سمّي العبد رقيقا، لأنهم يرقون لمالكهم ويخضعون له ويذلّون: والأديم: الجلد. للتقويم: لمعرفة قيمته. أفول: غروب. أنشأه: أحدثه وولّده. جبار: باطل. إخبار: إعلام. وأخبار:
جمع خبر، وأخبره: أعلمه. تحرّقت: عضضت أسناني حتى صوّتت من شدة الغيظ.