للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كما أن النزعة الصوفية عرفت تطورًا ملحوظًا وتقلبًا لم يكن يرضي كثيرًا من العلماء فقد انتقلت من زهد سني مقبول، إلى كشف (١) وتجل، ثم حلول واتحاد (٢)، وأخيرًا وحدة وجود (٣).

وبالنسبة للفقه فإنه يتميز في هذه الفترة بانقراض الاجتهاد المطلق الذي يتسم أصحابه بالاستقلال التام في الأصول والفروع، واقتصر الناس على المذاهب الأربعة المعروفة التي كانت موجودة في المشرق الإسلامي على تفاوت بينها في الانتشار. فأخلدوا إلى تقليد هذه المذاهب. واهتموا بتهذيبها وتوثيقها وتحرير أقوال أئمتها وتوجيهها والاستدلال لها والتخريج عليها وتأصيل أصولها وبناء فروعها. وأحيانًا معاداة مخالفيها والذود عنها بالتأليف والمناظرة والتدريس، والتزام القضاة والمفتين بها وعدم الخروج عن قواعدها.

وقد كان أكثر هذه المذاهب انتشارًا في الشرق في هذه الفترة المذهب الشافعي وذلك بسبب تبني بعض قادة السلاجقة له، وخاصة الوزير نظام الملك ت ٤٨٥ (٤)، الذي لم يأل جهدًا في خدمة العلم والعلماء عن طريق المذهب الشافعي. فبنى عدة مدارس فاخرة، وجلب كبار العلماء وأحاطهم بالرعاية والتكريم والتبجيل. فكثر خريجو هذه المدارس، وانتشروا في سائر الأقطار، وتولوا أهم المناصب الإدارية، مما جعل نفوس كثير من العلماء تهفو إلى الانتماء للمذهب الشافعي، وأذكر منهم على سبيل المثال أبا


(١) الكشف عند المتصوفة؛ أن يبدو للقلب من أنوار الغيوب ما ينال به الصوفي من المعارف ما لا يناله العقل منها، ثم بعد الكشف يترقى إلى مرتبة التجلي، وهي أن تظهر له الذات الإلهية في عين المظاهر الوجودية، ولم يعد بعد ذلك في حاجة إلى واسطة في تلقي المعرفة فيقول حدثني قلبي عن ربي ...
(٢) حقيقة الحلول والاتحاد عندهم، أن المحب يفنى في المحبوب، ويحبه بكل قلبه، حتى لا يكون هناك فرق بين محب ومحبوب، فيختلط المحب بالمحبوب ويمتزجان، ويصيران شيئًا واحدًا.
(٣) يقصدون بوحدة الوجود، أن الله والعالم شيء واحد، فليس في العالم وجودان، فالله هو العالم والعالم هو الله ...
(٤) ترجمته في شذرات الذهب ٣/ ٢٧٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>