للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أقول: إذا كان المازري على هذه الجلالة والإمامة والمكانة، لم يدع الاجتهاد لنفسه ولم يخرج عن المشهور، فكيف ننتظر منه أن يدعيه لغيره؟

ولم يكن المازري وحيدًا في نسيجه أو حالة فريدة في شريحته، بل هذا شأن كبار العلماء أمثاله، وهم كثر. أذكر منهم الشاطبي؛ المنظر والراسم لمعالم الاجتهاد؛ فقد نفى هو أيضًا عن نفسه الاجتهاد فقال: "ومراعاة الدليل، أو عدم مراعاته ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء، والفتيا بالمشهور منها، وليتنا ننجو مع ذلك رأسًا برأس، لا لنا ولا علينا." (١).

وبهذا يتبين أن كلام المازري جاء متأثرًا بطبيعته ونفسيته الميالة إلى إجلال العلماء المتقدمين والتهيب من اقتحام باب الاجتهاد، الذي من شروطه:- بالاضافة إلى العلم- الشجاعة. وهذا دأب العلماء الراسخين في العلم، المغلبين جانب الورع والتواضع على جانب العجب والغرور، ورغم هذا كله فإن المازري كان يمارس الاجتهاد عمليًا في الجانب التكويني التفقيهي (٢)، والله أعلم.

بقي أن أشير إلى أن علماء هذه المرحلة فرغوا جهودهم في المدونة المصدر الأول للمذهب. وكانوا يسمون الكتب التي تدور في ذلك المدونة شروحا أو تعاليق. قال ابن خلدون: "ولم تزل علماء المذهب يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح والإيضاح والجمع؛ فكتب أهل إفريقية على المدونة ما شاء الله أن يكتبوا، مثل ابن يونس واللخمي وابن محرز والتونسي وابن بشير وأمثالهم" (٣).

بعد هذا، أرى أنه آن الأوان للحديث عن حياة ابن بشير، وأرى أن ما سبق ذكره فيه كفاية لفهم الظروف المؤثرة في حياة هذا الإمام.


(١) المعيار:١١/ ١٠٣.
(٢) انظر منهج الخلاف والنقد الفقهي عند المازري ص: ٢١٠.
(٣) المقدمة ص: ٤٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>