للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن الفقهاء البارزين في هذه المرحلة كذلك تلميذ ابن سحنون عبد الله بن طالب الذي كان مولعًا بالمناظرة الفقهية، وجعلها تقليدًا راسخًا. قال ابن حارث: "كان ابن طالب لقنًا (١) فطنًا، جيد النظر، يتكلم في الفقه فيحسن. حريصًا على المناظرة. ويجمع في مجلسه بين المختلفين في الفقه، يغري بينهم لتظهر الفائدة، ويبيتهم عند نفسه، ويسامرهم، فإذا تكلم أجاد وأبان حتى يود السامع ألا يسكت" (٢).

ولعل هذا النمط من السلوك -أعني الولوع بالمناظرة-، لم يكن هو المسيطر على الساحة العلمية؛ فقد وجد من كان ينفر منه ويأبى الدخول فيه. فهذا يحيي بن عمر الكندي، لم يكن ينتحي الجدل والمناظرة على سعة علمه، قال القاضي عياض: "كان لا يفتح على نفسه باب المناظرة، وإذا ألحف عليه سائل أو أتاه بالمسائل العويصة، ربما طرده" (٣). وكذلك ابن اللباد الذي كانت مناظرته تعسر كما يقول عياض (٤).

هكذا كانت هذه المرحلة غزيرة الإنتاج كثيرة الجدل والمناظرة. إلا أن هذا الجدل وإن اتسم بنوع من الحدة، فإنه لم يخرج في الغالب الأعم عن إطار الآداب والأخلاق العلمية، إذا استثنينا بعض التصرفات الطائشة من بعض الأحناف (٥)، كما هو الشأن بالنسبة لابن عبدون القاضي الذي "ضرب طائفة من أهل العلم والصلاح من أصحاب سحنون بالسياط وطيف بهم على الجمال بغضًا منه في مذهب مالك وفي أصحابه، منهم أحمد بن معتب وأبو إسحاق بن المضاء وأبو زيد المديني والحسن ابن مفرج مولى مهرية، فمات


(١) لَقِنًا، أي: فَهِمًا. راجع لسان العرب مادة (لقن).
(٢) ترتيب المدارك ٤/ ٣٠٩ وأخبار علماء إفريقية ص ٢٥٧.
(٣) ترتيب المدارك ٤/ ٣٥٨.
(٤) المصدر السابق.
(٥) لم يكن الشافعية بمنأى عن الصراع الذي كان يدور في المنطقة إلا أن موقف المالكية منهم كان أقل حدة على اعتبار أن المذهب الشافعي وليد المذهب المالكي وإن كان مخالفًا له وخارجًا عليه، وهذا ما حمل كثيرًا من المالكية على كتابة ردود كثيرة على الشافعية. انظر تطور المذهب المالكي في الغرب الإسلامي ص ٢٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>