فاضطر البراذعي بعد هذا للخروج إلى صقلية. أما كتابه فقد لقي قبولا لدى الأجيال اللاحقة.
كما تأثر علماء هذه المرحلة ببعض كتب الحديث التي دخلت المنطقة؛ وأهمها صحيح البخاري، الذي دخل على يد أبي الحسن القابسي (ت) ٤٠٣، فانتعش الدرس الحديثي، واشتغل الناس بشرح البخاري والموطأ.
إلا أن العصر الذهبي للمذهب المالكي بإفريقية يبدأ عندما أدرك المعز بن باديس أن القضاء على المذهب المالكي أمر بعيد المنال ومتعذر الوقوع، ورأى أن مصلحة الدولة في جمع الشمل والقضاء على القلاقل. ولم يجد أفضل من التخلي عن العبيديين، وتبني المذهب المالكي ذي القاعدة الشعبية العريضة. فارتفع الضغط والتسلط والقهر الذي مورس على المالكية ولم يبق هناك داع ولا مبرر للاشتغال بالجدل والردود والمناظرات، إذ لم يعد هناك وجود معتبر للمذاهب المخالفة.
فالأحناف لفظهم المجتمع بسبب تشرقهم ولم يعد لهم مساند سياسي، فخلت الساحة للمالكية فتفرغوا لخدمة فروع مذهبهم وأصوله، فركزوا على رواياته وأقواله وقارنوا بينها وميزوا صحيحها من سقيمها ومشهورها من شاذها. وبعبارة أخرى بدأت عملية الغربلة والتمحيص بعدما انتهت مرحلة الجمع.
كما بدأت تظهر بوادر الرجوع إلى التأصيل مرة ثانية، ونشط تعليل الخلاف (١) وذكر أسبابه. فنشط بذلك الدرس الفقهي وظهرت طبقة من العلماء تحاول التحرر من التقليد، وتتعامل مع نصوص المذهب بعقلية نقدية وتحاكمه إلى قواعده وأصوله. فقامت ثلة من المالكية في هذه المرحلة بدور كبير وبحركة أحدثت صدى ظاهرًا. عملوا من خلالها على لفت الانتباه إلى منهج السلف، وإلى ضرورة العودة إلى المنهج العلمي الأمثل. فألفوا كتبًا
(١) ممن اشتهر بذكر سبب الخلاف عبد الحميد الصائغ واللخمي والمازري وابن بشير.