للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وطبقتهم، فقال بعد ذلك: "ودل على أن الفضل ليس منحصرًا في المتقدمين" (١).

بل إن كثيرًا من النقاد يرون أن المتأخرين لهم ميزات على المتقدمين في تقنيات البحث ودقة الألفاظ وجدة الاكتشاف، قال ابن عبد ربه: "ثم إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة، ومؤلفي كل أدب، أعذب ألفاظًا، وأسهل بنية، وأحكم مذهبًا، وأوضح طريقة من الأول, لأنه ناكص على متعقب والأول بادئ متقدم" (٢).

ويقول ابن عابدين: "كتب المتأخرين تفوق على كتب المتقدمين في الضبط والاختصار وجزالة الألفاظ وجمع المسائل وتقويم الدلائل. فالعالم المتأخر يصرف ذهنه إلى تنقيح ما قالوه، وتبيين ما أجملوه، وتقييد ما أطلقوه، وجمع ما فرقوه، واختصار عباراتهم، وبيان ما استقر عليه الأمر من اختلافهم".

كل هذه النصوص تبين أن معيار سبر مستوى الأداء العلمي بين المتقدمين والمتأخرين، هو العمل نفسه. فالأعمال العلمية تكتسب قيمتها من مدى الصواب والجودة. وهي مقاييس مجردة غير مرتبطة بزمان ولا مكان. قال حاجي خليفة: "فإنما يستجاد الشيء ويسترذل لجودته ورداءته في ذاته، لا لقدمه وحدوثه" (٣).

نعم للأوائل شرف الفوز باستخراج الأصول وتمهيدها، ورسم معالم العلوم وإبداعها. والأواخر لهم شرف الفوز بتفريع الأصول وتشييدها، وتهذيب العلوم وتنقيحها. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "أمتي أمة مباركة لا يدرى أولها خير أم آخرها (٤) " (٥).


(١) المقدمة ٧٢٨.
(٢) قواعد التحديث ص: ٣٩.
(٣) كشف الظنون ١/ ٣٩.
(٤) قال العجلوني في كشف الخفاء ١/ ٢٢٨: رواه ابن عساكر عن عمرو بن عثمان مرسلًا. وله شاهد عند الترمذي وأبي يعلى والدارقطني، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -:"مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره" انظر كشف الخفاء ٢/ ٢٥٨.
(٥) كشف الظنون ١/ ٣٩، أبجد العلوم ١/ ١٩٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>