وَكَذَلِكَ أَيْضًا تَنَازُعُهُمْ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، أَوْ أَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ هَذَا غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ غَالِيَةَ الْقَدَرِيَّةِ يَمْنَعُونَ أَنْ يَتَقَدَّمَ عِلْمُ اللَّهِ وَخَبَرُهُ وَكِتَابُهُ بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ، وَذَلِكَ لِاتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى أَنَّ خِلَافَ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ مُمْكِنًا وَلَا مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَقَدْ خَالَفَهُمْ فِي ذَلِكَ جُمْهُورُ النَّاسِ، وَقَالُوا: هَذَا مَنْقُوضٌ عَلَيْهِمْ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالُوا: إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَيَعْلَمُهُ مُمْكِنًا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ، غَيْرَ وَاقِعٍ وَلَا كَائِنٍ لِعَدَمِ إرَادَةِ الْعَبْدِ لَهُ أَوْ لِبُغْضِهِ إيَّاهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ، وَهَذَا النِّزَاعُ يَزُولُ بِتَنْوِيعِ الْقُدْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْقُدْرَةِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا الْقُدْرَةَ الْمُصَحِّحَةَ لِلْفِعْلِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَكَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْفِعْلِ لَا يُطِيقُهُ، كَمَا لَا يُطِيقُ الْأَعْمَى وَالْأَقْطَعُ وَالزَّمِنُ نَقْطَ الْمُصْحَفِ وَكِتَابَتَهُ وَالطَّيَرَانَ، فَمِثْلُ هَذَا النَّوْعِ قَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاقِعٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي جَوَازِ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا، حَتَّى نَازَعَ بَعْضُهُمْ فِي الْمُمْتَنِعِ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَالنَّقِيضَيْنِ، هَلْ يَجُوزُ الْأَمْرُ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرِيعَةِ؟ . وَمَنْ غَالَى فَزَعَمَ وُقُوعَ هَذَا الضَّرْبِ فِي الشَّرِيعَةِ، كَمَنْ يَزْعُمُ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ كُلِّفَ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي ذَلِكَ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، بَلْ إذَا قُدِّرَ أَنَّهُ أُخْبِرَ بِصَلْيِهِ النَّارَ الْمُسْتَلْزِمِ لِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَأَنَّهُ أُسْمِعَ هَذَا الْخِطَابَ، فَفِي هَذَا الْحَالِ انْقَطَعَ تَكْلِيفُهُ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ الْإِيمَانُ حِينَئِذٍ كَإِيمَانِ مَنْ يُؤْمِنُ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: ٨٥] ، وَقَالَ تَعَالَى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: ٩١] .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ النِّزَاعَ فِي هَذَا الْأَصْلِ يَتَنَوَّعُ تَارَةً إلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَارَةً إلَى جَوَازِ الْأَمْرِ، وَمِنْ هُنَا شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى النَّاسِ حَيْثُ جَعَلَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمًا وَاحِدًا، وَادَّعَى تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ مُطْلَقًا لِوُقُوعِ بَعْضِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute