للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: ١٩٦] لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الصَّدَقَةُ دَاخِلَةً فِي آيَةِ بَرَاءَةٌ، وَاتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّ فِدْيَةَ الْأَذَى لَا يَجِبُ صَرْفُهَا فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ لَمْ تَدْخُلْ فِي الْآيَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْرُوفِ، فَإِنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» . لَا يَخْتَصُّ بِهَا الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.

وَهَذَا جَوَابُ مَنْ يَمْنَعُ دُخُولَ هَذِهِ الصَّدَقَةِ فِي الْآيَةِ، وَهِيَ تَعُمُّ جَمِيعَ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْغَارِمِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَلَمْ يَقُلْ مُسْلِمٌ أَنَّهُ يَجِبُ اسْتِيعَابُ جَمِيعِ هَؤُلَاءِ، بَلْ غَايَةُ مَا قِيلَ إنَّهُ يَجِبُ إعْطَاءُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَهَذَا تَخْصِيصُ اللَّفْظِ الْعَامِّ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، ثُمَّ فِيهِ تَعْيِينُ فَقِيرٍ دُونَ فَقِيرٍ.

وَأَيْضًا لَمْ يُوجِبْ أَحَدٌ التَّسْوِيَةَ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ، فَالْقَوْلُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ فِي الْأَصْنَافِ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً كَالْقَوْلِ فِي آحَادِ كُلِّ صِنْفٍ عُمُومًا وَتَسْوِيَةً. الْوَجْهُ الثَّانِي:

إنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} [التوبة: ٦٠] لِلْحَصْرِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمَذْكُورُ وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ. وَالْمَعْنَى لَيْسَتْ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ بَلْ لِهَؤُلَاءِ، فَالْمُثْبِتُ مِنْ جِنْسِ الْمَنْفِيِّ. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ تَبْيِينَ الْمِلْكِ، بَلْ قَصَدَ تَبْيِينَ الْحِلِّ أَيْ لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَيْرِ هَؤُلَاءِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى بَلْ تَحِلُّ لَهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لِمَنْ سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَاتِ وَهُوَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَالْمَذْمُومُ يُذَمُّ عَلَى طَلَبِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ لَا عَلَى طَلَبِ مَا يَحِلُّ لَهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهُ، إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَذُمَّ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ إذَا سَأَلُوهَا مِنْ الْإِمَامِ قَبْلَ إعْطَائِهَا، وَلَوْ كَانَ الذَّمُّ عَامًّا لَمْ يَكُنْ فِي الْحَصْرِ ذَمٌّ لِهَؤُلَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَسِيَاقُ الْآيَةِ يَقْتَضِي ذَمَّهُمْ، وَالذَّمُّ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ سُؤَالُ مَا لَا يَحِلُّ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي نَفَى، وَيَكُونُ الْمُثْبَتُ هَذَا يَحِلُّ.

وَلَيْسَ مِنْ الْإِحْلَالِ لِلْأَصْنَافِ وَآحَادِهِمْ وُجُودُ الِاسْتِيعَابِ وَالتَّسْوِيَةِ كَاللَّامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] وَقَوْلِهِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: ١٣] . وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ اللَّامُ لِلْإِبَاحَةِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّهُ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ بِوَاوِ التَّشْرِيكِ وَلَامِ التَّمْلِيكِ مَمْنُوعٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا قَالَ فِي الْفَرَائِضِ {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: ١١] . وَقَالَ: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء: ١٢] إلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: ١٢] . وَقَالَ: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: ١٧٦] لَمَّا كَانَتْ اللَّامُ لِلتَّمْلِيكِ وَجَبَ اسْتِيعَابُ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورِينَ، وَأَفْرَادِ كُلِّ صِنْفٍ وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمْ، فَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ وَأَرْبَعَةُ بَنِينَ أَوْ بَنَاتٍ أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ إخْوَةٍ وَجَبَ الْعُمُومُ وَالتَّسْوِيَةُ فِي الْأَفْرَادِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالنَّسَبِ وَهُمْ مُسْتَوُونَ فِيهِ، وَهُنَاكَ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ فِيهِ كَذَلِكَ وَلَمْ يَجِبْ فِيهِ ذَلِكَ.

وَلَا يُقَالُ أَفْرَادُ الصِّنْفِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيعَابُهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَفْرَادِ مَا قِيلَ فِي الْأَصْنَافِ، فَإِذَا قِيلَ: يَجِبُ اسْتِيعَابُهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَيَسْقُطُ الْمَعْجُوزُ عَنْهُ، قِيلَ فِي الْأَفْرَادِ كَذَلِكَ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، لَكِنْ يَجِبُ تَحَرِّي الْعَدْلِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ كَمَا ذَكَرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الْجَنَائِزِ]

[مَسْأَلَةٌ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ إذَا مَرِضَ النَّصْرَانِيُّ أَنْ يَعُودَهُ]

كِتَابُ الْجَنَائِزِ

<<  <  ج: ص:  >  >>