فَلَمَّا كَانَتْ إمَارَةُ مُعَاوِيَةَ احْتَجَبَ لَمَّا خَافَ أَنْ يُغْتَالَ كَمَا اُغْتِيلَ عَلِيٌّ، وَاِتَّخَذَ الْمَقَاصِيرَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُصَلِّيَ فِيهَا ذُو السُّلْطَانِ وَحَاشِيَتُهُ، وَاِتَّخَذَ الْمَرَاكِبَ؛ فَاسْتَنَّ بِهِ الْخُلَفَاءُ الْمُلُوكُ بِذَلِكَ، فَصَارُوا مَعَ كَوْنِهِمْ يَتَوَلَّوْنَ الْحَرْبَ وَالصَّلَاةَ بِالنَّاسِ، وَيُبَاشِرُونَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ، وَالْجِهَادَ، وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ: لَهُمْ قُصُورٌ يَسْكُنُونَ فِيهَا، وَيَغْشَاهُمْ رُءُوسُ النَّاسِ فِيهَا، كَمَا كَانَتْ " الْخَضْرَاءُ " لِبَنِي أُمَيَّةَ قِبْلِيِّ الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، وَالْمَسَاجِدُ يُجْتَمَعُ فِيهَا لِلْعِبَادَاتِ، وَالْعِلْمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
[فَصْلٌ طَالَ الْأَمَدُ وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَّةُ وَتَمَسَّكَ كُلُّ قَوْمٍ بِشُعْبَةٍ مِنْ الدِّينِ]
ِ بِزِيَادَاتٍ زَادُوهَا فَأَعْرَضُوا عَنْ شُعْبَةٍ مِنْهُ أُخْرَى.
أَحْدَثَتْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ " الْقِلَاعَ وَالْحُصُونَ " وَإِنَّمَا كَانَتْ تُبْنَى الْحُصُونُ وَالْمَعَاقِلُ قَدِيمًا فِي الثُّغُورِ، خَشْيَةَ أَنْ يَدْهَمَهَا الْعَدُوُّ؛ وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَنْ يَدْفَعُهُ عَنْهَا، وَكَانُوا يُسَمُّونَ الثُّغُورَ الشَّامِيَّةَ " الْعَوَاصِمَ " وَهِيَ قِنِّسْرِينُ، وَحَلَبُ.
وَأُحْدِثَتْ " الْمَدَارِسُ " لِأَهْلِ الْعِلْمِ.
وَأُحْدِثَتْ " الرُّبُطَ، وَالْخَوَانِقَ " لِأَهْلِ التَّعَبُّدِ.
وَأَظُنُّ مَبْدَأَ انْتِشَارِ " لِأَهْلِ الْعِلْمِ ذَلِكَ فِي " دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ ".
فَأَوَّلُ مَا بُنِيَتْ الْمَدَارِسُ وَالرِّبَاطَاتُ لِلْمَسَاكِينِ، وَوُقِفَتْ عَلَيْهَا وُقُوفٌ تَجْرِي عَلَى أَهْلِهَا فِي وَزَارَةِ " نِظَامِ الْمُلْكِ ".
وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ ذِكْرُ الْمَدَارِسِ، وَذِكْرُ الرُّبُطِ؛ لَكِنْ مَا أَظُنُّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَيْهَا لِأَهْلِهَا؛ وَإِنَّمَا كَانَتْ مَسَاكِنَ مُخْتَصَّةً، وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ مَعْمَرُ بْنُ زِيَادٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَاحِدِيِّ فِي " أَخْبَارِ الصُّوفِيَّةِ " أَنَّ أَوَّلَ دُوَيْرَةٍ بُنِيَتْ لَهُمْ فِي الْبَصْرَةِ.
وَأَمَّا " الْمَدَارِسُ " فَقَدْ رَأَيْتُ لَهَا ذِكْرًا قَبْلَ دَوْلَةِ السَّلَاجِقَةِ فِي أَثْنَاءِ الْمِائَةِ الرَّابِعَةِ، وَدَوْلَتُهُمْ إنَّمَا كَانَتْ فِي الْمِائَةِ الْخَامِسَةِ، وَكَذَلِكَ هَذِهِ " الْقِلَاعُ، وَالْحُصُونُ " الَّتِي بِالشَّامِ عَامَّتُهَا مُحْدَثٌ، كَمَا بَنَى الْمَلِكُ الْعَادِلُ قَلْعَةَ دِمَشْقَ، وَبُصَرَى وَحَرَّانَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا كَثِيرِي الْغَزْوِ إلَيْهِمْ.
وَكَانَ النَّاسُ بَعْدَ الْمِائَةِ الثَّالِثَةِ قَدْ ضَعُفُوا عَنْ دِفَاعِ النَّصَارَى عَنْ السَّوَاحِلِ، حَتَّى اسْتَعْلُوا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ثُغُورِ الشَّامِ السَّاحِلِيَّةِ. -
[فَصْلٌ فِي الْخِلَافَةِ وَالسُّلْطَانِ وَكَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ ظِلَّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ]
ِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: