للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ قَاضٍ، سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ حَرْبٍ أَوْ مُتَوَلِّيَ دِيوَانٍ أَوْ مُنْتَصِبًا لِلِاحْتِسَابِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَعُدُّونَهُ مِنْ الْحُكَّامِ، وَلَمَّا كَانَ الْحُكَّامُ مَأْمُورِينَ بِالْعَدْلِ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ الْمَفْرُوضُ إنَّمَا هُوَ بِمَا يَبْلُغُهُ جَهْدُ الرَّجُلِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .

[فَصْلٌ إحْسَانُ اللَّه إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ]

فَصْلٌ: فَلَمَّا ذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْعَدْلِ، وَحَرَّمَهُ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عِبَادِهِ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إحْسَانَهُ إلَى عِبَادِهِ مَعَ غِنَاهُ عَنْهُمْ، وَفَقْرِهِمْ إلَيْهِ، وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى جَلْبِ مَنْفَعَةٍ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا دَفْعِ مَضَرَّةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُيَسِّرَ لِذَلِكَ، وَأَمَرَ الْعِبَادَ أَنْ يَسْأَلُوهُ ذَلِكَ. وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَفْعِهِ وَلَا ضَرِّهِ مَعَ عِظَمِ مَا يُوصِلُ إلَيْهِمْ مِنْ النَّعْمَاءِ، وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ الْبَلَاءَ. وَجَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدِّينِ أَوْ فِي الدُّنْيَا، فَصَارَتْ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْهِدَايَةُ وَالْمَغْفِرَةُ، وَهُمَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدِّينِ، وَالطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَهُمَا جَلْبُ الْمَنْفَعَةِ وَدَفْعُ الْمَضَرَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ شِئْت قُلْت: الْهِدَايَةُ وَالْمَغْفِرَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مَلِكُ الْبَدَنِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْإِرَادِيَّةِ. وَالطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ يَتَعَلَّقَانِ بِالْبَدَنِ. الطَّعَامُ لِجَلْبِ مَنْفَعَتِهِ وَاللِّبَاسُ لِدَفْعِ مَضَرَّتِهِ، وَفَتْحُ الْأَمْرِ بِالْهِدَايَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ الْهِدَايَةُ النَّافِعَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالدِّينِ، فَكُلُّ أَعْمَالِ النَّاسِ تَابِعَةٌ لِهَدْيِ اللَّهِ إيَّاهُمْ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: ١] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: ٢] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: ٣] .

وَقَالَ مُوسَى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: ٥٠] . وَقَالَ تَعَالَى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: ١٠] : وَقَالَ: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: ٣] .

<<  <  ج: ص:  >  >>