للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالثَّانِي: تَنْزِيلُهُ إلَى خَلْقِهِ.

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا مَقَالَاتِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ.

وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ، وَمَأْخَذَ كُلِّ طَائِفَةٍ.

وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ إبْطَالَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنٍ مِنْهُ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَإِنَّ قَوْلَ السَّلَفِ: مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ ذَاتَ اللَّهِ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ صِفَاتِهِ، بَلْ قَالُوا مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا: بَدَأَ مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ.

وَقَوْلُهُمْ " إلَيْهِ يَعُودُ " أَيْ عِلْمُهُ، فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ؛ وَلَا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا جَوَابُ مَسَائِلِ السَّائِلِ.

[فَصْلٌ قَوْلُ الْقَائِلِ أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ]

فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ.

فَيُقَالُ لَهُ: بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرْقِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ، وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ؛ يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانَ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ، وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِالْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، بَيْنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>