للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمُتَوَاتِرُ: فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ لَيْسَ لَهُ عَدَدٌ مَحْصُورٌ، بَلْ إذَا حَصَلَ الْعِلْمُ عَنْ إخْبَارِ الْمُخْبِرِينَ كَانَ الْخَبَرُ مُتَوَاتِرًا، وَكَذَلِكَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّ الْعِلْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُخْبِرِينَ بِهِ.

فَرُبَّ عَدَدٍ قَلِيلٍ أَفَادَ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ بِمَا يُوجِبُ صِدْقَهُمْ، وَأَضْعَافِهِمْ لَا يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحِيحُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ قَدْ يُفِيدُ الْعِلْمَ إذَا احْتَفَتْ بِهِ قَرَائِنُ تُفِيدُ الْعِلْمَ.

وَعَلَى هَذَا فَكَثِيرٌ مِنْ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مُتَوَاتِرُ اللَّفْظِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ غَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَوَاتِرٌ، وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ مُتُونِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا يَعْلَمُ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عِلْمًا قَطْعِيًّا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ: تَارَةً لِتَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ، وَتَارَةً لِتَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ.

وَخَبَرُ الْوَاحِدِ الْمُتَلَقَّى بِالْقَبُولِ يُوجِبُ الْعِلْمَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ كَالإسْفَرايِينِيّ وَابْنِ فُورَكٍ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، لَكِنْ لَمَّا اقْتَرَنَ بِهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى تَلَقِّيه بِالتَّصْدِيقِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ إجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْفِقْهِ عَلَى حُكْمٍ، مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ خَبَرِ وَاحِدٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ يَصِيرُ قَطْعِيًّا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنْ كَانَ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَعْصُومٌ، فَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى تَحْلِيلِ حَرَامٍ، وَلَا تَحْرِيمِ حَلَالٍ، كَذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى التَّصْدِيقِ بِكَذِبٍ، وَلَا التَّكْذِيبِ بِصِدْقٍ، وَتَارَةً يَكُونُ عِلْمُ أَحَدِهِمْ لِقَرَائِنَ تَحْتَفِي بِالْأَخْبَارِ تُوجِبُ لَهُمْ الْعِلْمَ، وَمَنْ عَلِمَ مَا عَلِمُوهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ مَا حَصَلَ لَهُمْ.

[فَصْلٌ شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ]

فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَلِهَذَا رِجَالٌ يَرْوِي عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَلِهَذَا رِجَالٌ يَرْوِي عَنْهُمْ يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي رِجَالٍ آخَرِينَ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّفَقَا عَلَيْهِمْ مَدَارُ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.

وَقَدْ يَرْوِي أَحَدُهُمْ عَنْ رَجُلٍ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ دُونَ الْأَصْلِ، وَقَدْ يَرْوِي عَنْهُ مَا عُرِفَ مِنْ طَرِيقِ غَيْرِهِ وَلَا يَرْوِي مَا انْفَرَدَ بِهِ، وَقَدْ يَتْرُكُ مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ مَا عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِيهِ، فَيَظُنُّ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ أَنَّ كُلَّ مَا رَوَاهُ ذَلِكَ الشَّخْصُ يَحْتَجُّ بِهِ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ عِلَلِ الْحَدِيثِ عِلْمٌ شَرِيفٌ

<<  <  ج: ص:  >  >>