قَوْلَهُ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: ٢] مُخْتَصٌّ بِهِ دُونَ أُمَّتِهِ. الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَغْفِرْ ذُنُوبَ جَمِيعِ أُمَّتِهِ بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أُمَّتِهِ مِنْ يُعَاقَبُ بِذُنُوبِهِ إمَّا فِي الدُّنْيَا وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا مِمَّا تَوَاتَرَ بِهِ النَّقْلُ وَأَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَشُوهِدَ فِي الدُّنْيَا مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا اللَّهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: ١٢٣] وَالِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ قَدْ يَكُونَانِ مِنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ. فَمَنْ نُقِلَ إلَى حَالٍ أَفْضَلَ مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَدْ يَتُوبُ مِنْ الْحَالِ الْأَوَّلِ؛ لَكِنَّ الذَّمَّ وَالْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى ذَنْبٍ.
[فَصْلٌ هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ]
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ السَّائِلِ: هَلْ الِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ بِمُجَرَّدِهِ مَعَ التَّوْحِيدِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِهَا وَكَشْفِ الْكُرْبَةِ الصَّادِرَةِ عَنْهَا؛ أَمْ يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ آخَرَ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُفْرَانِ مَعَ التَّوْحِيدِ هُوَ التَّوْبَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا؛ فَإِنَّ الشِّرْكَ لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ إلَّا بِتَوْبَةٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْقُرْآنِ وَمَا دُونَ الشِّرْكِ فَهُوَ مَعَ التَّوْبَةِ مَغْفُورٌ؛ وَبِدُونِ التَّوْبَةِ مُعَلَّقٌ بِالْمَشِيئَةِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: ٥٣] فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ، وَلِهَذَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ، وَخَتَمَ أَنَّهُ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، وَقَالَ فِي تِلْكَ الْآيَةِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: ٤٨] فَخَصَّ مَا دُونَ الشِّرْكِ وَعَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا كَانَ الشِّرْكُ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِتَوْبَةٍ؛ وَأَمَّا مَا دُونَهُ فَيَغْفِرُهُ اللَّهُ لِلتَّائِبِ؛ وَقَدْ يَغْفِرُهُ بِدُونِ التَّوْبَةِ لِمَنْ يَشَاءُ.
فَالِاعْتِرَافُ بِالْخَطِيئَةِ مَعَ التَّوْحِيدِ إنْ كَانَ مُتَضَمِّنًا لِلتَّوْبَةِ أَوْجَبَ الْمَغْفِرَةَ؛ وَإِذَا غُفِرَ الذَّنْبُ زَالَتْ عُقُوبَتُهُ؛ فَإِنَّ الْمَغْفِرَةَ هِيَ وِقَايَةُ شَرِّ الذَّنْبِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute