مِثَالُ ذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ لَفْظَ الْخَمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا عَصِيرَ الْعِنَبِ خَاصَّةً، ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَمْ يُحَرِّمْ إلَّا ذَلِكَ، أَوْ حَرَّمَ مَعَهُ بَعْضَ الْأَنْبِذَةِ الْمُسْكِرَةِ، كَمَا يَقُولُ ذَلِكَ مَنْ يَقُولُهُ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يُحَرِّمُ عَصِيرَ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ الزَّبَدِ، وَهَذَا الْخَمْرُ عِنْدَهُ، وَيُحَرِّمُ الْمَطْبُوخَ مِنْهُ مَا لَمْ يَذْهَبْ ثُلُثَاهُ، فَإِذَا ذَهَبَ ثُلُثَاهُ لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَيُحَرِّمُ النِّيءَ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ، فَإِنْ طُبِخَ أَدْنَى طَبْخٍ حَلَّ عِنْدَهُ، وَهَذِهِ الْمُسْكِرَاتُ الثَّلَاثَةُ لَيْسَتْ خَمْرًا عِنْدَهُ مَعَ أَنَّهَا حَرَامٌ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَنْبِذَةِ فَإِنَّمَا يُحَرِّمُ مِنْهُ مَا يُسْكِرُ.
وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فَوَافَقَ الْجُمْهُورَ فِي تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ، وَبِهِ أَفْتَى الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيِّ. وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ إمَّا فِي الِاسْمِ وَإِمَّا فِي الْحُكْمِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ سَلَكَهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، يَظُنُّونَ أَنَّ تَحْرِيمَ كُلِّ مُسْكِرٍ إنَّمَا كَانَ بِالْقِيَاسِ فِي الْأَسْمَاءِ أَوْ الْقِيَاسِ فِي الْحُكْمِ. وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ الْكِبَارُ أَنَّ الْخَمْرَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ مُسْكِرٍ، فَصَارَ تَحْرِيمُ كُلِّ مُسْكِرٍ بِالنَّصِّ الْعَامِّ وَالْكَلِمَةِ الْجَامِعَةِ، لَا بِالْقِيَاسِ وَحْدَهُ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ دَلِيلًا آخَرَ يُوَافِقُ النَّصَّ، وَثَبَتَ أَيْضًا نُصُوصٌ صَحِيحَةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: عِنْدَنَا شَرَابٌ مِنْ الْعَسَلِ يُقَالُ لَهُ الْبِتْعُ، وَشَرَابٌ مِنْ الذُّرَةِ يُقَالُ لَهُ الْمِزْرُ؟ قَالَ - وَكَانَ قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ - فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» إلَى أَحَادِيثَ أُخَرَ يَطُولُ وَصْفُهَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute