وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ لَا يَقُولُ بِهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، بَلْ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ إذَا صَحَّ النَّقْلُ بِهَا عَنْ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِدْلَال بِهَا فِي الْأَحْكَامِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَحْرُمُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَهَؤُلَاءِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: ٢٣] وَقَالَ: اسْمُ الرَّضَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ مُطْلَقٌ، وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ ظَنَّ أَنَّهَا تُخَالِفُ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ، وَاعْتَقَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْقُرْآنِ وَتَقْيِيدُ مُطْلَقِهِ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ. فَقَالَ الْأَوَّلُونَ: هَذِهِ أَخْبَارٌ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَكَوْنُهَا لَمْ تَبْلُغْ بَعْضَ السَّلَفِ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْكَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ صِحَّتَهَا.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: فَكَمَا أَنَّهُ قَدْ عُلِمَ بِدَلِيلٍ آخَرَ أَنَّ الرَّضَاعَةَ مُقَيَّدَةٌ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ، فَكَذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ بِقَدْرٍ مَخْصُوصٍ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ عُلِمَ بِالسُّنَّةِ مِقْدَارُ الْفِدْيَةِ فِي قَوْلِهِ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: ١٩٦] وَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ الْمَرْوِيُّ خَبَرًا وَاحِدًا، بَلْ كَمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا» .
وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ يُظَاهِرُ الْقُرْآنَ، وَاتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَكَذَلِكَ فُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَغَيْرِ الْمُتَوَاتِرَةِ بِحَمْلِ قَوْلِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: ١٠٣] وَفُسِّرَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أُمُورٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْحُدُودِ مَا هُوَ مُطْلَقٌ مِنْ الْقُرْآنِ، فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ وَتُبَيِّنُهُ، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ وَالتَّقْيِيدُ بِالْخَمْسِ لَهُ أُصُولٌ كَثِيرَةٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ، وَالصَّلَوَاتُ الْمَفْرُوضَاتُ خَمْسٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ صَدَقَةٌ، وَالْأَوْقَاصُ بَيْنَ النُّصُبِ خَمْسٌ أَوْ عَشْرٌ أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ، وَأَنْوَاعُ الْبِرِّ خَمْسٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: ١٧٧] .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute