وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ يَقُولُ: إنَّهُ مَا مِنْ مَسْأَلَةٍ يُسْأَلُ عَنْهَا إلَّا وَقَدْ تَكَلَّمَ الصَّحَابَةُ فِيهَا أَوْ فِي نَظِيرِهَا، وَالصَّحَابَةُ كَانُوا يَحْتَجُّونَ فِي عَامَّةِ مَسَائِلِهِمْ بِالنُّصُوصِ، كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُمْ، وَكَانُوا يَجْتَهِدُونَ رَأْيَهُمْ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِالرَّأْيِ، وَيَحْتَجُّونَ بِالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ أَيْضًا.
وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا فَارِقَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إلَّا فَرْقًا غَيْرَ مُوَثِّرٍ فِي الشَّرْعِ، كَمَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا سَمْنَكُمْ» ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِتِلْكَ الْفَأْرَةِ وَذَلِكَ السَّمْنِ. فَلِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ: إنَّ أَيَّ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ فِي دُهْنٍ مِنْ الْأَدْهَانِ كَالْفَأْرَةِ الَّتِي تَقَعُ فِي الزَّيْتِ، وَكَالْهِرِّ الَّذِي يَقَعُ فِي السَّمْنِ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ تِلْكَ الْفَأْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي السَّمْنِ.
وَمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ: إنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي فَأْرَةٍ وَقَعَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَخُصَّ الْحُكْمَ بِتِلْكَ الصُّورَةِ، لَكِنْ لَمَّا اُسْتُفْتِيَ عَنْهَا أَفْتَى فِيهَا، وَالِاسْتِفْتَاءُ إذَا وَقَعَ عَنْ قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ أَوْ عَنْ نَوْعٍ، فَأَجَابَ الْمُفْتِي عَنْ ذَلِكَ خَصَّهُ لِكَوْنِهِ سُئِلَ عَنْهُ، لَا لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُكْمِ. وَمِثْلُ هَذَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُضَمَّخَةٌ بِخَلُوقٍ؟
فَقَالَ: «انْزِعْ عَنْك الْجُبَّةَ وَاغْسِلْ عَنْك الْخَلُوقَ وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا كُنْت تَصْنَعُ فِي حَجِّك» . فَأَجَابَهُ عَنْ الْجُبَّةِ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ قَمِيصٌ أَوْ نَحْوُهُ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute