فَهَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْفَاسِدَةُ وَكُلُّ قِيَاسٍ دَلَّ النَّصُّ عَلَى فَسَادِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ، وَكُلُّ مَنْ أَلْحَقَ مَنْصُوصًا بِمَنْصُوصٍ يُخَالِفُ حُكْمَهُ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ، وَكُلُّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ الْأَوْصَافِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقِيَاسُهُ فَاسِدٌ، لَكِنْ مِنْ الْقِيَاسِ مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ، وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ، وَمِنْهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَمْرُهُ.
فَمَنْ أَبْطَلَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ، وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِالْقِيَاسِ الْمُخَالِفِ لِلشَّرْعِ فَقَوْلُهُ بَاطِلٌ، وَمَنْ اسْتَدَلَّ بِقِيَاسٍ لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ فَقَدْ اسْتَدَلَّ بِمَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ اسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ رَجُلٍ مَجْهُولٍ لَا يَعْلَمُ عَدَالَتَهُ.
فَالْحُجَجُ الْأَثَرِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ، وَإِلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ، وَإِلَى مَا هُوَ مَوْقُوفٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَحَدِهِمَا. وَلَفْظُ النَّصِّ يُرَادُ بِهِ تَارَةً أَلْفَاظُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ أَوْ ظَاهِرَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: النُّصُوصُ تَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَيُرَادُ بِالنَّصِّ مَا دَلَالَتُهُ قَطْعِيَّةٌ لَا تَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، كَقَوْلِهِ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ - اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: ١٩٦ - ١٧] ، فَالْكِتَابُ هُوَ النَّصُّ، وَالْمِيزَانُ هُوَ الْعَدْلُ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ مِنْ بَابِ الْعَدْلِ، فَإِنَّهُ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَتَفْرِيقٌ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، وَدَلَالَةُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ تُوَافِقُ دَلَالَةَ النَّصِّ، فَكُلُّ قِيَاسٍ خَالَفَ دَلَالَةَ النَّصِّ فَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَلَا يُوجَدُ نَصٌّ يُخَالِفُ قِيَاسًا صَحِيحًا، كَمَا لَا يُوجَدُ مَعْقُولٌ صَرِيحٌ يُخَالِفُ الْمَنْقُولَ الصَّحِيحَ.
وَمَنْ كَانَ مُتَبَحِّرًا فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْكَنَهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى غَالِبِ الْأَحْكَامِ بِالْمَنْصُوصِ وَبِالْأَقْيِسَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ دَلَّ عَلَى هَذَا الْحُكْمِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ كُلِّ مُسْكِرٍ، كَمَا يَدُلُّ النَّصُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الْخَمْرَ؛ لِأَنَّهَا تُوقِعُ بَيْنَنَا الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ وَتَصُدُّنَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ، كَمَا دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ، لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ شَرَابٍ وَشَرَابٍ، فَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الْمُشْتَرِكَةِ مِنْ هَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute