الْوَجْهُ الثَّالِثُ: إذَا فَرَضْنَا النَّصَّيْنِ خَاصَّيْنِ، فَأَحَدُ النَّصَّيْنِ حَرَّمَ ذَبَائِحَهُمْ وَنِكَاحَهُمْ، وَالْآخَرُ أَحَلَّهُمَا، فَالنَّصُّ الْمُحَلِّلُ لَهُمَا هُنَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ سُورَةَ الْمَائِدَةِ هِيَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، فَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَا يُقَالُ إنَّ هَذَا نَسْخٌ لِلْحُكْمِ مَرَّتَيْنِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ لَمْ يَكُنْ بِخِطَابٍ شَرْعِيٍّ حَلَّلَ ذَلِكَ، بَلْ كَانَ لِعَدَمِ التَّحْرِيمِ، بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَالتَّحْرِيمُ الْمُبْتَدَأُ لَا يَكُونُ نَسْخًا لِاسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ نَاسِخًا لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: ١٤٥] الْآيَةَ؛ مِنْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُحَرِّمْ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ إلَّا هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّلَاثَةَ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَفَتْ تَحْرِيمَ مَا سِوَى الثَّلَاثَة إلَى حِينِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَمْ يَثْبُتْ تَحْلِيلُ مَا سِوَى ذَلِكَ، بَلْ كَانَ مَا سِوَى ذَلِكَ عَفْوًا لَا تَحْلِيلَ فِيهِ وَلَا تَحْرِيمَ، كَفِعْلِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ: «الْحَلَالُ مَا حَلَّلَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ» .
وَهَذَا مَحْفُوظٌ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، أَوْ مَرْفُوعًا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٥] ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَحَلَّهَا ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَسُورَةُ الْمَائِدَةِ مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَعُلِمَ أَنَّ تَحْلِيلَ الطَّيِّبَاتِ كَانَ بِالْمَدِينَةِ لَا بِمَكَّةَ، وقَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: ٤] إلَى قَوْلِهِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة: ٥] ، إلَى آخِرِهَا. فَثَبَتَ نِكَاحُ الْكِتَابِيَّاتِ، وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ إمَّا عَفْوًا عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِمَّا مُحَرَّمًا ثُمَّ نُسِخَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ آيَةَ الْمَائِدَةِ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute