للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ تَنَازَعُوا: هَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْخُلْعُ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ؟ أَوْ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَالْفَسْخِ وَالْمُفَادَاةِ، وَيُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الطَّلَاقَ؟ أَوْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَهُ أَوْ لَا يَنْوِيَهُ، وَهُوَ خُلْعٌ بِأَيِّ لَفْظٍ وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ؟ عَلَى أَوْجُهٍ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. أَصَحُّهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقُدَمَاءِ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَخِيرُ، وَهُوَ: أَنَّ الْخُلْعَ هُوَ الْفُرْقَةُ بِعِوَضٍ، فَمَتَى فَارَقَهَا بِعِوَضٍ فَهِيَ مُفْتَدِيَةٌ لِنَفْسِهَا بِهِ، وَهُوَ خَالِعٌ لَهَا بِأَيِّ لَفْظٍ كَانَ، وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ قَطُّ لَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ وَلَا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الْخُلْعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ؛ بِلَا كَلَامِهِمْ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ.

وَالشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْخُلْعِ هَلْ هُوَ طَلَاقٌ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَأَحْسَبُ الَّذِينَ قَالُوا هُوَ طَلَاقٌ هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ وَالطَّحَاوِيُّ أَنَّ هَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَحْكِ عَنْ أَحَدٍ هَذَا؛ بَلْ ظَنَّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ. وَهَذَا بَنَاهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْعُقُودَ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهَا وَاحِدًا فَإِنَّ حُكْمَهَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ. وَفِي مَذْهَبِهِ نِزَاعٌ فِي الْأَصْلِ.

وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَإِنَّ أُصُولَهُ وَنُصُوصَهُ وَقَوْلَ جُمْهُورِ أَصْحَابِهِ أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْعُقُودِ بِمَعَانِيهَا لَا بِالْأَلْفَاظِ، وَفِي مَذْهَبِهِ قَوْلٌ آخَرُ: أَنَّهُ تَخْتَلِفُ الْأَحْكَامُ بِاخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ، وَهَذَا يُذْكَرُ فِي التَّكَلُّمِ بِلَفْظِ الْبَيْعِ، وَفِي الْمُزَارَعَةِ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَقَدْ ذَكَرْنَا أَلْفَاظَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَصْحَابِهِ، وَأَلْفَاظَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهَا بَيِّنَةٌ فِي عَدَمِ التَّفْرِيقِ. وَأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ لَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ، وَكَذَلِكَ أُصُولُ أَحْمَدَ. وَسَبَبُهُ ظَنُّ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يُفَرِّقُونَ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَبَيَّنَّا أَنَّ الْآثَارَ الثَّابِتَةَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ تَدُلُّ دَلَالَةً بَيِّنَةً أَنَّهُ خُلْعٌ. وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ. وَالطَّلَاقُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ هُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ.

قَالَ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ مَحْسُوبٌ مِنْ الثَّلَاثِ أَصْلًا. بَلْ كُلُّ طَلَاقٍ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْت طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةٌ لَمْ يَقَعْ بِهَا إلَّا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ؛ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ قَالُوا: وَتَقْسِيمُ الطَّلَاقِ إلَى رَجْعِيٍّ

<<  <  ج: ص:  >  >>