النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِالنَّسَبِ لَا بِنَفْسِ الرَّجُلِ، وَأَنَّ مَنْ شَكَكْنَا فِي أَجْدَادِهِ، هَلْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَمْ لَا، أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ فَحَقَنَّا دَمَهُ بِالْجِزْيَةِ احْتِيَاطًا، وَحَرَّمْنَا ذَبِيحَتَهُ وَنِسَاءَهُ احْتِيَاطًا، وَهَذَا مَأْخَذُ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَلِيٌّ لَمْ يَكْرَهْ ذَبَائِحَ بَنِي تَغْلِبَ إلَّا لِكَوْنِهِمْ مَا تَدَيَّنُوا بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي وَاجِبَاتِهِ وَمَحْظُورَاتِهِ، بَلْ أَخَذُوا مِنْهُ حِلَّ الْمُحَرَّمَاتِ فَقَطْ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يَتَمَسَّكُوا مِنْ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَهَذَا الْمَأْخَذُ مِنْ قَوْلِ عَلِيٍّ هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَوْلُ بِأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْقُرْآنِ هُمْ مَنْ كَانَ دَخَلَ جَدُّهُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرَادَ ذَلِكَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، بَلْ الصَّوَابُ الْمَقْطُوعُ بِهِ أَنَّ كَوْنَ الرَّجُلِ كِتَابِيًّا أَوْ غَيْرَ كِتَابِيٍّ هُوَ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ لَا بِنَسَبِهِ، وَكُلُّ مَنْ تَدَيَّنَ بِدِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهُوَ مِنْهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ أَبُوهُ أَوْ جَدُّهُ دَخَلَ فِي دِينِهِمْ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ، وَسَوَاءٌ كَانَ دُخُولُهُ قَبْلَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصَّرِيحُ عَنْ أَحْمَدَ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ مَعْرُوفٌ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الثَّابِتُ عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلَا أَعْلَمُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ نِزَاعًا.
وَقَدْ ذَكَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ هَذَا إجْمَاعٌ قَدِيمٌ، وَاحْتَجَّ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَنْ لَا يُقَرُّ الرَّجُلُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ كَمَنْ هُوَ فِي زَمَانِنَا إذَا انْتَقَلَ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَتُنْكَحُ نِسَاؤُهُ، وَهَذَا يُبَيِّنُ خَطَأَ مَنْ يُنَاقِضُ مِنْهُمْ. وَأَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، يَقُولُونَ: مَنْ دَخَلَ هُوَ، أَوْ أَبَوَاهُ، أَوْ جَدُّهُ فِي دِينِهِمْ بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ أُقِرَّ بِالْجِزْيَةِ، سَوَاءٌ دَخَلَ فِي زَمَانِنَا هَذَا، أَوْ قَبْلَهُ.
وَأَصْحَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُونَ: مَتَى عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ إلَّا بَعْدَ النَّسْخِ وَالتَّبْدِيلِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ مَعَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَالصَّوَابُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute