الْجِزَارَةَ مَعْرُوفَةٌ، وَلَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصِّنَاعَاتِ: كَالْحِيَاكَةِ، وَالْخِيَاطَةِ، وَالْبِنَاءِ. وَقَدْ كَانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَخِيطُ بِالْأُجْرَةِ عَلَى عَهْدِهِ فَيَسْتَحِقُّ هَذَا الْخَيَّاطُ مَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ، وَكَذَلِكَ أَجِيرُ الْخِدْمَةِ يَسْتَحِقُّ مَا يَسْتَحِقُّهُ نَظِيرُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ النَّاسِ.
وَأَمَّا " الْأُمُّ الْمُرْضِعَةُ " فَهِيَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأُمَّهَاتِ الْمُرْضِعَاتِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَيْسَ لَهُنَّ عَادَةٌ مُقَدَّرَةٌ إلَّا اعْتِبَارَ حَالِ الرَّضَاعِ بِمَا ذُكِرَ، وَهِيَ إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْهُ وَهِيَ مُطَلَّقَةٌ اسْتَحَقَّتْ نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفَقَةٌ عَلَى الْحَمْلِ. وَهَذَا أَظْهَرُ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: ٦] .
وَلِلْعُلَمَاءِ هُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مُعْتَدَّةٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا. وَهَذَا قَوْلُ مَنْ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لِلْبَائِنِ كَمَا يُوجِبُهَا لِلرَّجْعِيَّةِ، كَقَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ؛ وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لِكَوْنِهَا حَامِلًا تَأْثِيرٌ، فَإِنَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ؛ سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهَا نَفَقَةَ زَوْجَةٍ؛ لِأَجْلِ الْحَمْلِ؛ كَأَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ.
وَهَذَا قَوْلٌ مُتَنَاقِضٌ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ نَفَقَةُ زَوْجَةٍ فَقَدْ وَجَبَ لِكَوْنِهَا زَوْجَةً؛ لَا لِأَجْلِ الْوَلَدِ. وَإِنْ كَانَ لِأَجْلِ الْوَلَدِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ تَجِبُ مَعَ غَيْرِ الزَّوْجَةِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى سَرِيَّتِهِ الْحَامِلِ إذَا أَعْتَقَهَا. وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: هَلْ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ لِلْحَمْلِ؟ أَوْ لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. فَإِنْ أَرَادُوا لَهَا مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ. أَيْ لِهَذِهِ الْحَامِلِ مِنْ أَجْلِ حَمْلِهَا فَلَا فَرْقَ. وَإِنْ أَرَادُوا - وَهُوَ مُرَادُهُمْ - أَنَّهُ يَجِبُ لَهَا نَفَقَةُ زَوْجَةٍ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ: فَهَذَا تَنَاقُضٌ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَمْلٌ. وَنَفَقَةُ الْحَمْلِ تَجِبُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَةٌ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الصَّحِيحُ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَمْلِ؛ وَلَهَا مِنْ أَجْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute